... وبعد رحلة استمرت أكثر من ساعتين في السيارة، نصل بعلبك مدينة الشمس، لحضور مهرجانها التاريخي الذي افتتح مساء أول من أمس بالمسرحية الغنائية «من أيام صلاح الدين» للأخوين فريد وماهر الصباغ. الوصول إلى بعلبك، لا يشبه البتة الوصول الى مدن لبنانية تحتضن مهرجانات ضخمة، فالمدينة شبه نائمة، والحركة فيها قليلة، والطريق الطويلة لا تحتضن إعلانات لأمسيات المهرجان. الزحمة البشرية والعروض الجانبية وحركة البيع والشراء، التي ترافق مهرجانات لبنانية، مفقودة في مدينة الشمس. بدأت المسرحية متأخرة ساعة ونصف الساعة عن موعدها المحدد، وكأن التأخير بات ميزة لغالبية المهرجانات اللبنانية، ما يبرز بوضوح علاقة اللبنانيين الملتبسة بالوقت. لكن قبل الحديث عن المسرحية، لا يسع المشاهد إلا التفكير في ضرورة ضخ جرعة شبابية بين القيمين على المهرجان، وربما في رئاسته أيضاً، ما سينعكس على حيويته بلا شك، خصوصاً في ما يتعلق بحل المشكلات التنظيمية، وتأخّر بدء العرض إحداها. ولعله يسجل للمهرجان منحه الفرصة هذه السنة لشابين (فريد وماهر الصباغ) لا يزالان في بداية مشوارهما الفني، ولعرضهما المسرحي الغنائي الضخم. وهذه المبادرة ليست غريبة عن المهرجان الذي فتح المجال أمام عدد من أبرز الفنانين اللبنانيين، ومنهم عاصي ومنصور الرحباني، زكي ناصيف، محمد شامل ووديعة ومروان جرار، نزار ميقاتي، نصري شمس الدين، صبري الشريف وغيرهم. في السنوات العشر الأخيرة، قُدّمت على خشبة المسرح في لبنان، شخصيات أدبية وتاريخية، مثل سقراط والمتنبي وجبران خليل جبران وتشي غيفارا ودون كيشوت وغيرهم. والحال إن مدى نجاح أو فشل هذه العروض في حاجة إلى نقاش موسع، لكن غالبية العروض سعت إلى إسقاطات على الواقع اللبناني. كأنما ثمة عقدة يعاني منها بعض العاملين في هذا المجال، إذ يحاولون تسيير الأحداث ومقاربتها من وجهة النظر اللبنانوية الضيقة. أفلا نستطيع مشاهدة عمل تاريخي من دون إسقاطات على الواقع السياسي - الاجتماعي المحلي؟ والعرض الذي بدأ متأخراً، شابه الكثير من المشاكل التقنية في الصوت والإضاءة، وهي أخطاء لا تغتفر في عرض مباشر. كما أن خطأً فادحاً أشعل حريقاً على خشبة المسرح، سرعان ما أخمده رجال الدفاع المدني! المسرحية الغنائية (المستمر عرضها حتى الليلة) أشبه باحتفالية بانتصارات صلاح الدين، وما حققه للعرب من فخر واعتزاز. يبدأ العرض بحديث بين روائي (أنطوان كرباج) وزميل له في غرفة في المستشفى، بعد تعرضه لأزمة قلبية. يريد الكاتب أن ينهي مسرحيته التي كتبها عن صلاح الدين، لكن رفضها على مدار 20 سنة من قبل المنتجين، دفعه إلى التدخل في بعض الأحداث التاريخية، كأن يحاول توقيع معاهدة سلام بين ريتشارد قلب الأسد (غسان عطية) وصلاح الدين (عاصي الحلاني)، تجنباً لحرب طويلة ومضنية. وفي بعض المشاهد يدخل الكاتب على المسرحية للنقاش مع الممثلين والتداول في الأزمة. كما حاول وضع إدراج إسقاطات من نوع معارك تدور بالبنادق الرشاشة والمدافع. وموت الكاتب، قبل أن يكتب مشهد النهاية في المسرحية، وفشله في أن يعقد معاهدة سلام، إسقاط آخر على الواقع وما يعانيه العرب حالياً من أزمات. يقول فريد الصباغ إن المسرحية «تعرض الصعوبات التي واجهت صلاح الدين بعد تحرير القدس، عسانا نتعلم منه شيئاً يفيدنا في زمننا الحاضر». غير أن الصعوبات التي واجهت صلاح الدين لم تظهر جلية في العمل الضخم، ولم يفهم المشاهد أبرز هذه الصعوبات: هل هي في تعاطي صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد؟ أم في تنظيم صفوفه الداخلية؟ أم في تمتين موقفه بعد تحريره للقدس؟ كما أن العرض لم يتطرق إلى جوانب مغايرة من حياة صلاح الدين، غير تلك التي نعرفها عنه من كتب السيرة والتاريخ. التعاطي مع شخصية تاريخية بحجم صلاح الدين في حاجة الى نص عميق ومتين وقوي، والنص الذي قدم في المسرحية يعاني أزمات عدة أبرزها الركاكة والحوارات الفضفاضة والاعتماد على مصطلحات محلية شعبية، تستعمل في الشارع، وبين فئة محددة من الناس. النص الركيك أضعف العمل وسبّب نفوراً لكثيرين، لا سيما حوارات صلاح الدين ومعاونيه. وأظهر العمل صلاح الدين، الذي أدى دوره المطرب عاصي الحلاني، راقصاً فولكلورياً ومغنياً للهوارة والعتابا. وهي ليست المرة الأولى التي يشارك فيها الحلاني في عمل مسرحي غنائي، إذ سبق أن شارك في «أوبرا الضيعة» (2009) لعبدالحليم كركلا في مهرجانات بعلبك. لم يكن الحلاني مقنعاً في دوره التمثيلي، وإن عوّض ذلك نوعاً ما بصوته القوي والجميل. وبدا واضحاً أيضاً عدم التناسق والانسجام بين اللوحات الراقصة، خصوصاً أن ثمة تفاوتاً في المستوى بين الراقصين. أظهر الأخوان الصباغ صلاح الدين في شكل كرنفالي احتفالي، كما أن ثمة مغالطات تاريخية حول ما حصل في القدس من معارك وكيف تحررت. لكنّهما، لا يظهران في بعلبك من دون خلفية، إذ قدّما قبل سنوات مسرحية عن «تشي غيفارا» على أحد مسارح العاصمة، ونالت نجاحاً جماهيرياً لا بأس به. شارك في العمل أكثر من 150 شخصاً بين ممثلين وراقصين، أبرزهم عاصي الحلاني وأنطوان كرباج وكارمن لبّس وخالد السيد وكارين رميا ونبيل أبو مراد، إضافة الى فرقة اوركسترالية من 45 شخصاً، عزفت الموسيقى الحية بقيادة المايسترو هاروت فازيليان، وجوقة الجامعة الأنطونية المؤلفة من 36 شخصاً بقيادة الأب توفيق معتوق. ومهما كانت الانتقادات للعمل، يبقى خطوة جيدة لإعادة إحياء المسرح الغنائي اللبناني، الذي بات يحتكره في الفترة الأخيرة الجيل الثاني من الرحابنة، وهي محاولة شبابية قد تتبلور في المستقبل.