نجحت الثورات العربية حتى اللحظة في إنهاء نظامين، المصري والتونسي، وتوسعت في بلدان أخرى، من ليبيا الى اليمن وسورية، وربما ستحدد النتيجة في أي من هذه الدول الأخيرة معالم استمرار هذا «الربيع» العربي. إلا أن ما يهمنا هنا هو علاقة هذه الثورات بإعادة صوغ استراتيجيات ومفاهيم جديدة للصراع العربي - الإسرائيلي في شكل عام والفلسطيني - الإسرائيلي في شكل خاص. هناك مقولة قديمة في منطقتنا تقول، إنه لن تكون هناك حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية. هذه مقولة قديمة اعتمدها بعض التحليلات العربية والغربية لواقع قديم انتهى بانتهاء حرب 1973 واستنفدت زمنها بعد توقيع اتفاقية «كمب ديفيد» في سبعينات القرن الماضي أولاً، ثم بعد خروج سورية حزب «البعث» من منطق الحرب المباشرة مع اسرائيل لتحرير الجولان المغتصب ثانياً. كما ساهمت ما أطلق عليها عمليات السلام انطلاقاً من لقاءات مدريد إلى أوسلو وطابا، وما تلاها ومؤتمر القمة العربية في بيروت الذي تمخضت عنه وثيقة سلام عربية، في الدخول في منطق آخر هو منطق التفاوض من أجل انهاء الاحتلال، والذي بدوره استنفد زمنه ووصلنا إلى طريق مسدود مع حكومات اسرائيلية لا تزال تؤمن بفرض الأمر الواقع وإدارة الصراع بدل القبول بإنهاء الاحتلال. هذا الوضع يضعنا أمام خيارات صعبة خصوصاً ونحن نعيش زمن الثورات العربية التي لا ندري الى الآن أين ستحط رحالها. مصر ما بعد الثورة لن تكون مصر ما قبل الثورة، وسورية ما زلنا لا نعرف إلى أين ستجرفها الانتفاضة التي دخلت شهرها الخامس. وآخر الحروب التي شنتها اسرائيل في المنطقة كانت حروباً ضد كل من «حزب الله» في لبنان و «حماس» في غزة، وهما مجموعتان مسلحتان بأسلحة لا توازي ترسانة اسرائيل، وبالتالي فهذه الحروب كانت غير متساوية من حيث العتاد وحجم الدمار الذي حصل في كل من لبنان وغزة. كما أن الاتفاقيتين الوحيدتين ل «السلام» اللتين وقعتهما اسرائيل مع جيرانها، كانتا مع كل من مصر والأردن، ونتجت منهما عودة سيناء إلى مصر بشروط لا تزال قائمة ولم تؤدِّ هذه العودة إلى وجود علاقة «طبيعية» على رغم أنها أمّنت حدوداً هادئة بين الطرفين، كما أن اتفاقية السلام الباردة مع الأردن لم تنهِ أطماع اسرائيل في ترحيل الفلسطينين إلى هذا البلد. مصر اليوم تدخل عصراً جديداً ستحدد فيه أكثر معالم سياستها الخارجية مع دول الجوار الإقليمي ومع الدول الغربية بما فيها الولاياتالمتحدة. الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر سترخي لا محالة بظلالها على معالم هذه السياسة في الوقت القريب على الأقل. والقيادة العسكرية، وعلى رغم الظروف السياسية الضاغطة، اتخذت مبادرات متوازنة وجديدة تجاه كل من إيران وسورية كما هيأت أفضل الأجواء للمصالحة الفلسطينية. ومن دون شك ستتأثر سورية من دون شك بانتفاضتها وبعدم الاستقرار الذي تعيشه، لكن التكهن الآن بمستقبلها وبمستقبل علاقاتها مع دول الجوار ومع اسرائيل في شكل خاص هو عمل صعب. لكن ما يمكن أن نجزمه هو أن الشرق الأوسط الجديد لن يكون، على المدى القريب وربما المتوسط، هو الشرق الأوسط القديم، والتغيير الحاصل في المنطقة سيفرض نهجاً جديداً ومختلفاً في علاقات دوله مع بعضها ومع الولاياتالمتحدة والدول الغربية. الثابت الى الآن في خضم كل هذه المتغيرات هو النهج السياسي الإسرائيلي القائم على استمرار الاستيطان ورفض أي حوار لا يقوم على رؤيته لما يمكن أن يشكل «السلام». الثابت كذلك هو الدعم الأميركي المستمر لإملاءات الدولة العبرية مهما كلف الثمن. ولن يتغير هذا النهج ما لم تتغير سياسات المنطقة تجاه اسرائيل والغرب بصفة عامة. فما دام الغرب يرى أنه لا يدفع ثمناً لاستمرار سياساته تجاه اسرائيل وإنهاء احتلال الأراضي العربية، فلن يغير من هذه السياسة. قاومت كل الحكومات الاسرائيلية مبدأ الأرض مقابل السلام الذي دعا اليه مؤتمر مدريد، واستمرت في بناء المستوطنات وتوسيعها في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبناء الجدار العازل غير القانوني، وفرض سياسة الأمر الواقع، ومصادرة بطاقات هوية المقدسيين الفلسطينيين وتهويد مدينتهم، ولم نرَ من الغرب المساند اليوم للثورات العربية، إلا بيانات خجولة تدين هنا وهناك «التصرف الأحادي» وتحض الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على العودة إلى طاولة المفاضات، وكأن الطرف الفلسطيني هو من يعوق العودة الى المفاوضات. يدرك الغرب أن السلام بين اسرائيل وجيرانها لن يتحقق ما لم تكن هناك وقفة جدية وضغط قوي على اسرائيل، لكن هذا الضغط لن يحصل ما لم تكن هناك وقفة قوية وخطاب عربي واحد وحازم تجاه الدول الغربية الداعمة الدائمة لإسرائيل والمساندة اليوم لثورات المنطقة، بعدما ساندت في الأمس أنظمة فاسدة. في خطابه الأخير الذي طال انتظاره عن الشرق الاوسط، نزل الرئيس الأميركي باراك أوباما من أعلى الشجرة في ما يخص مطالبة اميركا لإسرائيل بالكف عن بناء المستوطنات، وتحدث عن ضرورة إعادة فتح الطريق نحو مفاوضات مباشرة اسرائيلية - فلسطينية، من دون أي اشارة إلى كيفية الوصول إلى ذلك أو الدور الذي يجب أن تقوم به الإدارة الأميركية من أجل حض اسرائيل على ذلك. جديد أوباما هو الحديث عن حدود 1967 كنقطة انطلاق لترسيخ حدود الدولة الفلسطينية، وهو المعروف المسكوت عنه في السياسة الخارجية الأميركية. رفض رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو بقوة وباستخفاف الطرح الأميركي، وعلّل ذلك في خطابيه أمام الكونغرس الأميركي ومؤتمر «ايباك»، اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة، بأن اسرائيل لا تستطيع حماية نفسها ضمن حدود 1967، بدل الحديث عن الجانب الأيديولوجي لليمين الإسرائيلي الذي يتحدث عن أرض «يهودا والسامرة» التوراتية. وفي خطابه التوضيحي أمام «أيباك» تحدث أوباما طويلاً موضحاً ما قصده بالإشارة الى «حدود 1967». واستفاض في الحديث عن أمن وسلامة اسرائيل ومدى التزام الولاياتالمتحدة بمساعدتها، لكن حتى هذا لم يرضِ «ايباك»، التي دعا رئيسها الرئيس أوباما ألا يحاول أن يساوي بين طرفي الصراع، اسرائيل والفلسطينيين، بل أن يعلن أن أميركا تقف مع اسرائيل وأنه يعود لقادة إسرائيل وحدهم اتخاذ قرارات «مصيرية» عن حدود اسرائيل. هكذا تحولت مطالبة الإدارة الأميركية بحق الشعب الفلسطيني في دولة قابلة للحياة ووضع حد لبناء المزيد من المستوطنات، إلى مطالبة الطرفين بالعودة إلى المفاوضات. خضوع الإدارة الأميركية مرة أخرى لضغوط اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة أنهى أي احتمال لإحياء للسلام. لذا فعلى الفلسطينيين أن ينسوا احتمال أن تغير الولاياتالمتحدة موقفها، خصوصا أن اوباما مقبل على انتخابات رئاسية. وحتى من دون هذه الانتخابات، لم يستطع أي رئيس أو مسؤول أميركي أن يتحدى أو يصمد في وجه اللوبي اليهودي. خطة الرئيس عباس في المواجهة بالذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على تصويت لعضوية الدولة الفلسطينية خطة مهمة للغاية، خصوصاً في زمن الثورات العربية. أقل ما يمكن الحصول عليه هو فيتو أميركي آخر، وهذا يجب أن تكون له عواقب في زمن الثورات العربية. المسؤولية ليست فقط على عاتق المسؤولين الفلسطينيين وحدهم. يجب على شعوب المنطقة وقياداتها الجديدة أن تتحمل قسطها من المسؤولية. هناك ضرورة ملحّة لبلورة خطة اقليمية للتعامل مع إمكانية قطع المساعدات الأميركية عن الشعب الفلسطيني، واستعمال الفيتو ضد الاعتراف الدولي بعضوية الدولة الفلسطينية. على الولاياتالمتحدة أن تدرك أن هناك حساباً في زمن الربيع العربي، وعلى دول المنطقة ان تعيد النظر في علاقاتها مع الإدارة الأميركية في شكل خاص والغرب في شكل عام، وتطوير تعامل ندّي مبني على مصالح مشتركة وليس على الإملاءات وغض الطرف. هذه لحظة حاسمة في تاريخ المنطقة ويجب استيعاب ما يحصل والعمل على التأثير فيه لإنهاء احتلال الأراضي العربية وإعادة صوغ استراتيجية جديدة في العلاقات السياسية بين العرب وبينهم وبين الآخرين. على دول المنطقة أن تساهم في تقرير مصير المنطقة بدل فتح المجال للآخرين مرة أخرى لتخطيط ما يجب أن يحصل في زمن الثورات. * باحث مغربي