في 26 آذار (مارس) 2018 عُقدت قمة «فارنا» في بلغاريا وجمعت بين الرئيس التركي وعدد من القادة الأوروبيين، في محاولة لحلحلة التوتر القائم بين الجانبين من جهة، ومن جهة أخرى فتح تركيا الباب مجدداً لمفاوضات اللحاق بالقطار الأوروبي. غير أن القمة انتهت من دون مؤشر على إحراز تقدم في الملفات الشائكة والقضايا العالقة، وفي مقدمها ملف العضوية الكاملة في الاتحاد؛ إضافة إلى رفض دول أوروبية تسليم مقيمين لديها ينتمون إلى حركة «خدمة» التي تتهمها أنقرة بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016. وبرعت تركيا أردوغان في توظيف العلاقة مع الاتحاد الأوروبي لمصلحة تقليم أظافر المؤسسة العسكرية، وترسيخ التوجه المدني للجمهورية التركية، كما في الترويج للنموذج الذي يزاوج بين الديموقراطية والإسلام. إلا أن السلوك التركي في السنوات الأخيرة، أثار مخاوف الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في ظل التوجه نحو تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحات أردوغان، والتوجه نحو تكريس القيم السلطوية على حساب الممارسات الديموقراطية. وتعزّزت هذه التوجهات مع الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها تركيا عشية الانقلاب الفاشل ضد المعارضة والمناوئين لاتجاهات السلطة ناهيك عن قمع الأكراد، والتوجه نحو عسكرة المشهد جنوب شرقي البلاد، والأهم التحول إلى النظام الرئاسي. ودخلت العلاقة مناخ الشحن مع الضغط التركي على أعصاب الاتحاد بورقة اللاجئين، ناهيك عن رفض قطاع معتبر من الدول الأوروبية بالتدخل التركي في سورية، ما وسع نطاق الخلافات. وانعكس التوتر في العلاقة بين تركيا وهولندا، والقلق الحادث بين أنقرة وأثينا على مناقشات قمة «فارنا» لاسيما في ظل إدانة الاتحاد منع تركيا السلطات القبرصية من التنقيب عن النفط والغاز في مياه المتوسط. ودفع الخوف الأوروبي من التوجهات السلطوية في تركيا، إلى إلغاء تأشيرة دخول الاتحاد الأوروبي «شينغن» بالنسبة إلى المواطنين الأتراك، وتحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي التي بدأ العمل بها في العام 1995 مع تركيا. ووفر الاتحاد منذ توقيع اتفاق 2016 نحو 1.9 بليون يورو من أصل 6 بلايين يورو مقدمة على مرحلتين، بينما أشار الرئيس التركي بعد قمة «فارنا» إلى أن بلاده أنفقت ما يقرب من 30 بليون دولار على اللاجئين السوريين المقدر عددهم بنحو 3.5 مليون نسمة في تركيا. ويلاحظ أن التوجه الأوروبي تجاه أنقرة لم يقتصر على تأجيل الملفات الشائكة، بل ذهب الاتحاد بعيداً عندما وبّخ أنقرة بعد فرض حالة الطوارئ في تموز (يوليو) 2016، ووجّه صفعة قوية لها عندما أعلن في كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه تجميد مفاوضات العضوية فضلاً عن دعوة الرئيس الفرنسي مطلع العام 2018 أنقرة إلى التخلي عن الحلم الأوروبي مقابل شراكة إستراتيجية. الموقف من العضوية التركية يكشف أن مناورات أنقرة، والإصلاحات السطحية لم تقنع بروكسل، ما يعني أن وجودها الذي طالما سعت إلى ترسيخه في العمق الأوروبي ليس بالمتانة التي تضمن لها الاستقرار والاستمرار. والواقع أن الخوف الأوروبي من عضوية تركيا ليس وليد ضغوطات اللحظة الراهنة، فهو قلق تاريخي ممتد، ويرتبط بكثير من الملفات الشائكة والتحديات المتباينة، أولها قناعة دول الاتحاد أن تركيا ما زالت في حاجة إلى سلسلة أخرى من القوانين التطبيقية بخاصة في ما يتعلق بإقرار حقوق قانونية ودستورية للقوميات والأقليات غير التركية ومنها القومية الكردية. كما أن قضية الإبادة الأرمينية مازالت تلقي بظلالها على علاقة أوروبا بتركيا، لاسيما مع رفض أنقرة الاعتراف بالمسؤولية عن مجازر الأرمن خلال الحرب العالمية الأولي. وثانيها تصاعد المخاوف الأوروبية من تراجع حرية التعبير والصحافة في تركيا، وتراجع حكم القانون، وقمع المعارضة، والتوجه نحو الإمساك بمفاصل كل شيء في البلاد من قبل الحزب الحاكم. فوق ما سبق، يمثل العامل الديموغرافي عقبة كؤود أمام انضمام تركيا البالغ عدد سكانها أكثر من 80 مليون نسمة، ما يعني زيادة وزن تركيا في عملية التصويت حال دخولها البيت الأوروبي، وبالتالي يخصم من وزن وتمثيل ألمانيا التي تحتل المرتبة الأولى سكانياً بين دول الاتحاد. وهذا يثير مخاوف سياسية داخل أوروبا من تحول القضايا التركية ذات الطابع الإسلامي المحافظ إلى قضايا أوروبية وتفوقها على نقاشات اجتماعية أخرى تهم أوروبا وبعيدة من الدين في آن معاً. كما يبقى العامل الثقافي والحضاري معضلة كبيرة، إذ إن دمج الدولة ذات الأغلبية المسلمة هو أحد أهم الأسباب التي لا تزال تحول دون دخولها النادي الأوروبي. في هذا السياق يتخوف الاتحاد الأوروبي من وجود دولة يشكل المسلمون 99 في المئة من مواطنيها، بل وتتجه نحو مزيد من مظاهر الأسلمة، ما قد يهدد الهوية المسيحية الأوروبية، في ظل وجود نحو 6 ملايين تركي في أوروبا. لكن هذا الفتور في العلاقة لن يصل إلى حد القطيعة، إذ تشكل الاستثمارات الأوروبية نحو 60 في المئة من جملة الاستثمارات الأجنبية في تركيا؛ ناهيك عن أن أوروبا تمثل وجهة مهمة للمواطنين الأتراك سواء للعمل أو السياحة. في المقابل يحتاج الاتحاد إلى دور تركيا في التصدي لأزمة اللاجئين ناهيك عن كونها دولة محورية في مواجهة التمدد الإيراني، والبوابة الجنوبية لحماية الأمن القومي الأوروبي، وممر استراتيجي لمصادر الطاقة الواردة إلى أوروبا.