تحظى القمة المقررة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في مدينة سان بطرسبرغ في التاسع من آب (أغسطس) الجاري باهتمام إقليمي ودولي لا تخطئه عين. تستعجل تركيا تعزيز التقارب مع موسكو وتطوير المصالحة إلى مرحلة شراكة تعوض قلق العلاقة بين أنقرة والعواصم الغربية. وفي المقابل، تعمل موسكو على تكريس مسار التطبيع بين البلدين والانتقال إلى علاقة ودية وتعاون استراتيجي في الملفات الإقليمية والدولية، خصوصاً بعد التوتر بين أنقرة وواشنطن، على خلفية رفض الأخيرة تسلم فتح الله غولن، وتحذير وزير الخارجية الأميركي جون كيري من أن «تركيا قد تفقد عضويتها في الناتو إذا لم تلتزم القانون في رد فعلها على محاولة الانقلاب الفاشلة». وثمة معطيات غرست بذور التهدئة بين البلدين، منها اعتذار الرئيس التركي لموسكو عن إسقاط طائرة «سوخوي 24» في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بل إن أنقرة أعلنت أخيراً اعتقال الطيارين التركيين اللذين أسقطا الطائرة الحربية الروسية، واتهمتهما بالانتماء إلى جماعة غولن، المتّهم بتدبير الانقلاب. في المقابل، وسعت أنقرة انعطافتها السياسية باتجاه موسكو والتماهي مع توجهاتها إزاء ملفات الإقليم، وبرز ذلك في تعاون عسكري روسي - تركي، خصوصاً أن موسكو صمتت عن الدوافع الانتقامية المغلفة بحسابات سياسية للرئيس التركي عشية الانقلاب، فقد تجاهل بوتين خطوات تركيا الداخلية، وفي طليعتها إعلان حالة الطوارئ والتطهير في المؤسسة العسكرية، إذ أكد الكرملين أن «نجاح الانقلاب على السلطة الشرعية كان سيسفر عن مأساة داخلية ومزيد من زعزعة الإقليم المضطرب». وكان الرئيس الروسي أول مسؤول دولي يهاتف أردوغان ويعرب عن مساندته في شكل كامل لحكومة العدالة والتنمية، وأكد «خط روسيا المبدئي بعدم جواز القبول بتحركات غير دستورية أو استخدام العنف لمحاولة إطاحة السلطة الشرعية في تركيا بالقوة». تزامن ما سبق مع استعجال أنقرة تطبيع علاقاتها مع موسكو واستئناف مشاريع اقتصادية مشتركة قبل لقاء أردوغان وبوتين، ناهيك برفع الحظر على استيراد المنتجات الزراعية التركية وعودة النشاط السياحي ووقف الحملات الإعلامية الضارية بين البلدين. من جهة أخرى، عادت المفاوضات لاستكمال مشروع خط أنابيب الغاز «السيل التركي»، ومشروع مفاعل «آك كويو» النووي الذي تشيده «أتوم ستروي إيكسبورت» الروسية منذ العام 2012 في مدينة أضنة في جنوبتركيا. في الوقت الراهن، تلتقي مصلحة تركياوروسيا، وهما تحاولان تجاوز كابوس صراع امتد أربعة قرون، تداخلت فيه السياسة والاقتصاد والدين، لكن تراجعت مساحة التوتر، وصعد منحنى العلاقة مع وصول «العدالة والتنمية» الذي حدَّد أولويات جديدة ومختلفة للسياسة الخارجية التركية، من أهمها تصفير المشكلات، وكانت روسيا محطة مهمة لتركيا، إذ وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 40 بليون دولار، وتأمل تركيا وفق وزير خارجيتها مولود جاويش بأن يصل إلى 100 بليون دولار في الفترة المقبلة. والأرجح أن ثمة دوافع عدة تدفع باتجاه التقارب بين أنقرةوموسكو أولها متغير الغاز، الذي يمثل أحد أهم متغيرات معادلة العلاقة بين البلدين، إذ تلبّي روسيا نحو 60 في المئة من حاجات تركيا من الغاز. كما تبدو الأخيرة في حاجة إلى تلطيف العلاقة مع موسكو مع اقتراب نهاية اتفاقات توريد الغاز لتركيا بعد سبع سنوات، ما يتطلب مفاوضات جديدة وعسيرة على مستويات الحجم والمدة والسعر إذا ظلت العلاقة مضطربة. أما العامل الثاني، فيتمثل في انعطافة أنقرة في سياستها الإقليمية بعيداً من الغرب، في ظل تصاعد انتقادات الاتحاد الأوروبي للإجراءات القمعية، عشية الانقلاب، وانتصار الدوافع الانتقامية لأردوغان على حساب العقل ضد قطاعات واسعة وتقزيم دور الجيش، ناهيك بحديث عن دور أميركي مفترض في الانقلاب، ثم مسألة الداعية الإسلامي غولن المتهم بتدبير الانقلاب ورفض الولاياتالمتحدة تسليمه إلى أنقرة. بين روسيا والغرب وبينما تبدو العلاقة مرشَّحة لمزيد من التطور مع روسيا الصامتة عن إجراءات اجتثاث معارضي أردوغان، فهي على المحك مع الغرب، في ظل رفض الناتو والاتحاد الأوروبي فرض حالة الطوارئ والتضييق في مجال الحريات والتعبير. وقد يدخل الطرفان مرحلة الشحن إذا ما خيُرت تركيا بين عضويتها في الناتو واستمرار مفاوضاتها مع العائلة الأوروبية وبين تبنيها إجراءات القمع والنزوع نحو مزيد من السلطوية. خلف ما سبق، فإن موسكو في حاجة إلى أنقرة في الأزمة السورية لتضعف الضغط الأوروبي على موسكو التي تسعى إلى حل سياسي في سورية يضمن بقاء الأسد في صدارة الصورة أو على الأقل ضمن مكوناتها. والموافقة التركية على بقاء الأسد - ولو مرحلياً - هي جزء من مطلب روسي، وتبدو أنقرة مستعدة له بعد المواقف الضعيفة والمخزية لحلفائها في الغرب من الانقلاب الفاشل. كما تهدف أنقرة بانعطافها على موسكو والتماهي مع سياستها في ملفات الإقليم إلى تقليص الدعم الروسي لحزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري» الذي تراه أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً انفصالية جنوب شرقي تركيا. وكانت موسكو قد سمحت لأكراد سورية بإقامة دويلة فيدرالية، وبإنشاء الحزب مكتباً تمثيلياً له في روسيا. كما شنَّ سلاح الجو الروسي طلعات ساهمت في تقدم السوريين الأكراد في مناطق نفوذ «داعش» والسيطرة على مزيد من الأراضي على الحدود التركية، كوباني- عفرين وصولاً إلى غرب الفرات. على صعيد ذي شأن، فإن موسكو تنطلق في تقاربها مع أنقرة من اقتناع بأن محاولة الانقلاب شكَّلت ضربة لأردوغان سيكون من شأنها مزيد من انكفاء تركيا على الداخل لفترة ما وتقليص تدخلها في الشؤون الإقليمية، خصوصاً في سورية والعراق. بالتالي انكفاء أردوغان على الداخل يمثل فرصة لروسيا من أجل دفع أنقرة على إجراء مراجعة لتوجهاتها حيال الأزمة في سورية. وقد تدفع موسكو باتجاه مشاركة أكبر لأنقرة في الحرب على «داعش» و «جبهة النصرة» والجماعات التي تصنفها إرهابية بجوار الضغط على حكومة «العدالة والتنمية»، بتقديم ضمانات بقطع الإمدادات عن المعارضة السورية. وكمثال يؤشر إلى تحول السياسة الخارجية التركية تجاه موسكو، أكد رئيس الوزراء التركي علي بن يلدريم أهمية عودة العلاقة الطبيعية مع دمشق، ناهيك بحديث خفي ومعلن عن سماح أنقرة لطائرات روسية بالإقلاع من قاعدة «انجرليك الجوية»، لقصف مواقع جماعات المعارضة في سورية. ومن جهة أخرى، يمثل ارتفاع العائد الاقتصادي المتوقع لأنقرة من الشراكة مع موسكو أحد أسباب حرص أنقرة على الانفتاح على الجار الروسي. فاقتصادياً، تظل روسيا رقماً صعباً في معادلة أمن الطاقة لتركيا التي تشكل أيضاً المقصد السياحي الأول للسياح الروس منذ سنوات. لذا فإن اللقاء المقرر في 9 الجاري قد يطوي كثيراً من صفحات الخلاف السياسية، ويفتح آفاقاً أوسع لتعاون بين البلدين يستند إلى مصالح اقتصادية من جهة، ومن جهة ثانية إلى كيمياء سياسية تجمع بين القيصر الحالم بالإمبراطورية والسلطان الحالم بالخلافة. * كاتب مصري