بين الحين والآخر تتردد أحاديث متباينة عن مبادرة تقدمت بها جماعة «الإخوان» لمحاولة تحريك المشهد السياسي باتجاه أهدافها، ما بين «جبهة الضمير»، و «تحالف دعم الشرعية»، ثم «وثيقة بروكسيل»، ثم «إعلان القاهرة» الذي تقدم به أكاديمي مقرب من الجماعة وشاعر هو نجل أحد أهم دعاتها وسفير سابق لديه ماضٍ وطني مشرف لكنه ربما ما زال لديه بقايا ثقة في الجماعة التي لم يشاطرها أفكارها يوماً ولم يتفق أبداً مع سياساتها. وعلى رغم تباين المحاولات وانطلاقها عبر أكثر من منصة تتخفى مرة تحت عناوين وطنية وأخرى تحت عناوين إسلامية، إلا أنها تنتهي للفشل وتعود الجماعة من جديد لتردد خطاب المظلومية، وتواصل هجومها على نظام ما زال قيد التشكل، فما هي أسباب هذا الفشل؟ وهل يعود ذلك الفشل للجماعة أم للنظام؟ في تقديري أن السبب الأهم للفشل هو في الجماعة ذاتها، التي ارتكبت خطأ كارثياً حين حولت الصراع بينها وبين الدولة المصرية، من صراع سياسي تستخدم فيه أدوات السياسة إلى صراع ديني تستخدم فيه أدوات التعبئة الدينية، والحديث عن معركة بين الحق والباطل، النصر فيها أو الشهادة من نصيب المؤمنين، والخزي والنار من نصيب الكفار والمنافقين، الذين هم وفقاً لهذا التقسيم جموع المصريين ممن لم يشاركوا الجماعة معاركها في الحكم كانت أم في المعارضة، حولت الجماعة المعركة في وعي أعضائها والمقربين منها إلى معركة دينية، وتحدثت عن مؤامرة على الدين والهوية في مصر، كما لو أن الإسلام لم يدخل مصر إلا مع وجود الجماعة ومشروعها المثير للجدل، فشلت الجماعة لأنها لم تمتلك يوماً شجاعة مراجعة مسيرتها وأدبياتها، الجماعة التي شغلت الرأي العام في أثناء وجودها في الحكم وحتى خروجها بفعل شعبي انحاز له الجيش كالعادة، لم تضبط متلبسة يوماً وهي تصارح نفسها ما هي أزمتها، لتخرج بتشخيص واضح وأمين يساعدها في الخروج من مأزقها بمبادرة حقيقية يكتب لها النجاح، أتصور أن هذه تمر عبر مجموعة من الشروط المهمة: اختيار قيادة جديدة للجماعة أكثر قدرة على قراءة الواقع والتعاطي معه، ومراجعة كل مواطن فشلها وأزماتها، بما يفتح الباب للتعامل مع محنة الفكر داخلها، فلم تقدم الجماعة مفكرين عبر تاريخها، وهي التي هيأت داخلها بيئة طاردة للعقول المستنيرة وصممت آليات تستبعد من تثبت عليه تهمة التفكير، حيث غلب على أدائها نمط تسبق فيه الحركة التخطيط والتنظير، وبالتالي أصبح كثير من أدبياتها يلهث وراء الحركة ليبررها ويقعدها في وعي أفرادها، وفق ما يريد التنظيم المغلق، الذي اختار الهيكل الهرمي بوعي مؤسسه ليجعل صناعة القرار بيده وبيد المجموعة الأضيق، بمخالفة واضحة لما جرى عليه التنظيم الأول الذي صنعه النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته، وادعى الإخوان أنهم يقتدون بهم. فلم تكن التنظيمات الإسلامية هرمية بل كانت شبكية تسمح لأصغر عدو أن يستدرك على القيادة ويقدم لها النصح أو النقد بسهولة ويسر، وهو ما أفرز أزمة في قيادة الجماعة التي كانت ربما في المراحل الأولى من حياة المؤسس مؤهلة للقيام بدورها بفعل ما تمتلكه من كاريزما وإمكانات. لكنها في المراحل التالية لم تفرز قيادات جديدة تتمتع بالقدرات الكافية لإدارة تنظيم اختار في وقت مبكر من الأربعينات أن يخوض معاركه مع الجميع في الداخل والخارج لمحاولة الوصول لحكم مصر، من دون أن يُراكم من المهارات والمعارف السياسية والحركية ما يفي بخوضه كل هذه المعارك، بما كشف في النهاية عن أزمة في الإدراك الاستراتيجي نستطيع أن نسميها بالعمى الاستراتيجي الكامل، حيث انخرطت الجماعة في تكتيكات الصراع واستفرغت طاقاتها في كل مرحلة منها، من دون أن تنتبه لحقيقة الصلات بين تلك الحلقات والاستراتيجية العامة، التي بدت غائمة أحياناً أو غائبة تماماً. وهذا ما كشفته خطوات الجماعة أو أخطاؤها الأربعة القاتلة، وأولها هذا الانتقال المبكر من مربع الدعوة والتربية الذي اختارته عنواناً لحركتها في العقد الأول منذ تأسيسها، إلى مربع التدافع السياسي من دون امتلاك أدواته، أو التركيز في مساراته من دون التباس لازمها بين الدعوة والسياسة، وحين انخرطت في الخطأ الأول انتقلت مباشرة إلى الخطأ الثاني وهو تأسيس أول ميليشيا عسكرية سميت النظام الخاص، بهدف معلن وقتها وهو حماية الدعوة وتحرير الوطن من الاحتلال والسعي لقتال اليهود في فلسطين، وهو ما لم يظهر واضحاً في مسيرة هذا النظام الذي انشغل بمعاركه الداخلية في قتل وتفجير وإشاعة الفوضى تحت عناوين براقة تدعي الصلة بالدين والوطنية، وبعد قليل كانت القيادة انتقلت من أرباب القلم إلى أرباب السيف، الذين تمثلوا قول المتنبي: السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد والهزل، ومضت الجماعة بقيادتها الجديدة المسكونة بالعنف، تجدد حيويته اللاهبة بأفكار سيد قطب الذي انضم إلى الجماعة في مطلع الخمسينات، ليكون منظرها وقائدها الجديد الذي خط لها طريق العنف والتكفير الذي وسم مسيرتها، ودمغها بهذا الأداء الذي وصل بها لحكم مصر والخروج منه بعد عام واحد من الفشل الذي خلَّف الكثير من الكوارث، ليس أقلها هذا الانقسام المجتمعي الذي لم تعرفه مصر عبر تاريخها، في ظل مناخ إقليمي ودولي يدفع في اتجاه تقسيم دول المنطقة وهو الهدف الذي دعمته الجماعة بوعي أو من دون وعي، لتصبح اليوم فصيلاً مكروهاً من القطاعات الأوسع في الشعب المصري، من دون أن تفتش في الأسباب التي وصلت بها إلى هذا الدرك في الوعي الجمعي للشعب. وظلت تتعامل باستخفاف وتعالٍ مع الشعب وقواه السياسية بالمبادرة تلو الأخرى بتذاكٍ لم تتخل عنه، ومن دون أن تبدأ بالخطوة الأولى التي من دونها لن تنجح في شيء، المراجعة التي تقود للاعتذار وتحديد الإجراء المناسب للتكفير عن خطاياها، بالعودة عن تلك الصيغة الملتبسة التي ميَّزتها بين حزب يعمل للوصول إلى الحكم، وجماعة تريد أن تمارس الوصاية على المجتمع ومنظومة قيمه، عليها أن تختار طريقاً واحداً، تمتطي جواداً واحداً، إما الدعوة وإما السياسة. هذا قد يصلح مدخلاً لحوار يفتح الباب لإعادة دمج الجماعة على نحو صحيح، ومن دونه هي تحرث في البحر، مصرة على تغليب منطق الصراع الصفري الذي لن يكون أبداً في مصلحتها في مواجهة الدولة المصرية. * كاتب مصري