سبقت الإشارة إلى أن محافظة صعدة بحكم بيئتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية المعقدة، شكلت حاضنة ملائمة لتفريخ بويضات الإمامة الحوثية، إلا أن هذه البويضات ما كان لها أن تتفقس من دون تفاعل جملة من العوامل الموضوعية والشروط الذاتية التي خدمتها ووفرت لها مقومات الحياة والنمو السريع في الوسط الاجتماعي لمحافظة صعدة، ومن أبرز هذه العوامل والشروط يمكن تناول القضايا التالية:- قدرة أسرة الحوثي وفي مقدمتهم بدر الدين الحوثي (وكان من ابرز علماء الزيدية) على تضليل العامة في صعدة بالحق الإلهي لهم في الحكم، وهو ما كان له الأثر الكبير في تصديق الناس لدعوتهم وادعاءاتهم الجديدة دون تمعن في مضامينها ومعرفة أهدافها، سيما وأنها قدمت إلى العامة مغلفة بعباءة دينية وتحت شعار التقوى والمصلحة العامة والإصلاح والتجديد في الفكر والمذهب الزيدي، وقد بررت هذه الجماعة أعمالها الإجرامية والخروج على القانون وحشدت عدداً من صغار السن لتنفيذها عبر التوظيف السيئ والخاطئ للفتوى السياسية الدينية، وتبني شعارات تخاطب عواطف البسطاء وغرائزهم وتدغدغ مشاعرهم الدينية واحتياجاتهم الحياتية المادية الروحية، وتستفز فيهم روح العصبية الضيقة بمكوناتها السلالية، والمذهبية الطائفية والمناطقية. في خطابهم السياسي الديني وأدبياتهم المختلفة جعل الحوثيون من أنفسهم أوصياء على الهاشميين، وأظهروهم للرأي العام باعتبارهم أقلية مضطهدة من قبل المجتمع ومحاربين من قبل النظام الذي اغتصب حقهم الإلهي في السلطة، وقدموا أنفسهم مدافعين عن آل البيت وحقوقهم ضد كل من يريد القضاء على مكانتهم ومجدهم وتاريخهم وتميزهم الروحي والعرقي، وبلغة دينية ذات نزعة طائفية خاطبوا منتسبي المذهب الزيدي، وحاولوا إبراز هذا المذهب بالمحارب من قبل أهل السنة والدولة التي يدّعون ان السنيين يسيطرون عليها، متناسين ان كثيراً من منتسبي المذهب الزيدي يشغلون مواقع مهمة وكثيرة في الدولة، وان مسألة المذهبية ليس لها أي اعتبار في شغل المواقع والمناصب الحكومية، مبررين تمردهم على الدولة وجرائمهم ضد الشعب باعتبارها واجباً جهادياً مقدساً للدفاع عن مذهب أهل البيت وحمايته من مخاطر الانقراض وشرور أهل السنة. استغل الحوثيون بمهارة معاناة السكان في المحافظة وظروفهم المعيشية الصعبة وانتشار الفقر والبطالة وشح الإمكانات وضعف معدلات التنمية وأخطاء بعض الجهات الرسمية وتقصيرها، وغيرها من الإشكالات الاجتماعية الداخلية، وفسروها باعتبارها ظواهر تخص أبناء صعدة دون غيرهم، وأن سببها الرئيس يتمثل في عداء الدولة وقيادتها لأهل صعدة، وتعمد تجاهلهم وحرمانهم من المشاريع التنموية. على صعيد آخر قدم الحوثيون أنفسهم إلى عامة الشعب اليمني، في مظهر وطني وحدوي وأنصار لكل المظلومين والمحرومين، وتحت يافطات دينية براقة، كما قدموا أنفسهم للرأي العام كحماة للدين الإسلامي.. وجزء من جيش الله لتحرير الأقصى ومواجهة اليهود والأمريكان، وقدموا أنفسهم لجماعة ما يسمى "بالحراك الجنوبي" باعتبارهم شركاءهم وأنصارهم في تحقيق كافة مطالبهم الانفصالية. قبل أن تتكشف حقيقة الحوثية كان هذا الخطاب الديني وهذه الشعارات البراقة مؤثرة وجذابة ومقنعة لشريحة واسعة من بسطاء أبناء صعدة محدودي الثقافة أو الغارقين في الجهل والمتطلعين إلى غد أفضل وأجمل مما هم فيه.. إلا أن القراءة المتأنية لفكر الحوثية وأدبياتها تكشف عن حقيقتها التي لن تكون أكثر من مجرد عملة سياسية زائفة يروج لها في أوساط العامة وتسوق بطرق غير مشروعة نحو الخارج، في الوجه الأول لهذه العملة يمكن استقراء البرنامج والخطاب الديني الكهنوتي الرافض لكل قوى وبرامج التغيير والتحديث المعاصرة التي لا تأتي من تحت عباءة الإمامة أو من تحت عمامة ولاية الفقيه، كذلك يمكن قراءة المشروع السياسي الماضوي المتخلف لهذه الجماعة وقناعاتها ومواقفها المتشبعة بالحقد والكراهية والغلو والتطرف، وغيرها من مفردات العداء للوطن والرفض المطلق لكل مبادئ الديمقراطية وقيم الحوار والتسامح والتصالح. من خلال قراءة الوجه الآخر لهذه العملة السياسية الحوثية الزائفة تكشفت حقيقة أهداف هذه الجماعة الضالة والمضللة، ومسعاها الموجه لإحداث أكبر قدر ممكن من الجرائم والآثار السلبية المدمرة للعملية التنموية وللأمن والاستقرار والوحدة الوطنية للشعب، فالفكر الحوثي مكرس وموجه لإحداث أكبر قدر ممكن من الأضرار والتمزقات العميقة في النسيج الاجتماعي والأخلاقي للأمة، وفي وحدتها العقائدية الدينية، وهذا الفكر الضال مكرس لتشويه واقعنا الوطني الثقافي وإذكاء روح النزعات العصبية الضيقة وإشعال فتيل الصراعات الداخلية على أسس "سلالية وطائفية ومناطقية وجهوية وقبلية". استخدام الحوثيين لشبكة واسعة من المراكز والمساجد والمدارس الدينية التي لا تخضع لرقابة الدولة، وتحويلها إلى معسكرات خاصة لاستقطاب المراهقين والشباب وغسل أدمغتهم وإعادة تربيتهم وإعدادهم فكرياً ومعنوياً وسياسياً وعسكرياً، وفق برامج ومناهج وأدوات تربوية خاصة، مختارة بعناية وموظفة لخدمة مشاريعهم السياسية.. فالبنية الاجتماعية والعقائدية والعسكرية للجماعة الحوثية تستمد روافدها الرئيسة من مصادر متجددة تتمثل بالمدارس الدينية الخاصة بها، وأضحى بمقدور هذه الجماعة إعداد سرايا من المراهقين كمرتزقة حرب محصنين فكرياً ومعدين نفسياً وأخلاقياً وعقائدياً ليكونوا قتلة محترفين تسهل قيادتهم وتوجيههم والتحكم بأفعالهم وسلوكهم وفق الأجندة السياسية والمصالح الخاصة لزعمائهم الروحيين. لقد شكلت المدارس الدينية الحلقة المركزية في النشاط المبكر للظاهرة الحوثية، وقبل سنوات عدة من إعلان الحوثية عن وجودها العلني وفكرها السياسي الديني مثلت هذه المدارس نواتها للعمل السياسي السري المنظم، وخاضعة لسيطرتها المباشرة، وتمحورت برامجها ومناهجها الدراسية ورسالتها السياسية الدينية حول الفكر الحوثي التمردي، وتجسدت وظيفتها الرئيسة في مهمة اختزال الدين "كفكر وسلوك ومعاملات وقيم وأخلاقيات وعبادات" ضمن قناعات ومصالح ومشاريع الظاهرة الحوثية، وبالتالي تفسير مبادئه وأحكامه وتشريعاته وفق هذا المنظور الضيق. من خلال هذه المدارس استطاع الحوثيون التغرير بقطاع واسع من الشباب في محافظة صعدة، ومن خلال ذلك امتلكوا الأداة الناجحة والوسيلة الفاعلة التي مكنتهم من إعادة بناء طبيعة تكوينهم الفكري وقناعاتهم العقائدية والتحديد الواضح لنمط سلوكهم الحياتي، ودورهم في المجتمع.. ومن خلال هذه المدارس استطاع الحوثيون أن يجعلوا من أنفسهم "كهنة" وأوصياء على الدين يوهمون المغرر بهم باحتكار حقيقة هذا الدين وتطبيقاته السليمة، وجعلوا من أنفسهم معياراً وحكماً تقاس وتوزن به صحة سلوكيات الآخرين من غير الحوثيين، وقناعاتهم ودرجة إيمانهم وصحة تطبيقاتهم لفرائض الدين وشرائعه، وفق هذه المعايير تم تقسيم المجتمع في صعدة إلى معسكرين إما معهم وهم - بحسب ما يوهمونهم - المؤمنون والمجاهدون ومثواهم الجنة، وإما ضدهم وهم -في نظرهم- المارقون والخارجون على الدين ومآلهم النار مع حلفائهم اليهود والأمريكان. لقد نجح الحوثيون في توظيف المدارس الدينية الخاصة بهم بأن حولوا طلابها إلى مرتزقة ومقاتلين محترفين، وحملة أوفياء لجيناتهم الفكرية وقناعاتهم ومشاريعهم السياسية، وأوصياء مخلصين على تطبيقها وإشاعتها وسط السكان، والجهاد والتضحية بالنفس في سبيل انتصارها. فتنة الحوثية مثل غيرها من الإشكالات والفتن التي يرتبط الكثير منها بعلاقة وثيقة بالنهج العملي والخطاب السياسي الديني والمواقف المتطرفة للجماعات السياسية الدينية التي تظهر على ساحة الأحداث الوطنية كمرجعية وقوة محركة ودافعة لإذكاء الفتن الداخلية، معتمدة في ذلك على طابور طويل من مخرجات المدارس الدينية غير الرسمية بشقيها العلني والسري، وهذه الطوابير غالباً ما يتم تسخيرها بمهنية واحتراف سياسي من قبل البعض كأدوات طيعة لفرض وإشاعة أيديولوجيتها وثقافتها الظلامية، وتحقيق مشاريعها ومصالحها المتناقضة مع مصالح الوطن وحقوق الإنسان وخياراته الوطنية. فتنة الحوثية أكدت مجدداً وبما لا يدع مجالاً للشك، أن التطرف والغلو والتعصب الديني، والجمود الفكري، وغيرها من المفردات والقناعات والمفاهيم المكونة لثقافة الإرهاب والكراهية التي أضحت من الظواهر الخطيرة التي يستشري داؤها وفعلها التدميري في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية مصدرها بدرجة رئيسه المدارس الدينية غير المرخصة وبالذات السرية منها. فالمدارس الدينية الحوثية مثل غيرها من المدارس الدينية الموظفة من قبل البعض لتقديم تعليم وتربية سياسية على أساس ديني غير سوي يستقي مضامينه ومواده من مناهج ومراجع متشددة ومتطرفة في آرائها ونظرتها للآخر، وموظفة في خدمة مصالح وأهداف جماعة دينية أو سياسية أو مذهبية، تسعى لتوظيف الدين وتغيير مبادئه وأحكامه وتشريعاته من منظور أجندتها وقناعتها الخاصة، الأمر الذي يصيب الوعي الجمعي للشعب بالكثير من الأضرار والتشوهات ويضاعف من مخاطر أزمة الوعي وأزمة الفهم الصحيح للإسلام كمنظومة شاملة ومتكاملة. غياب أو ضعف دور وفاعلية رجال الدين المعتدلين من مختلف المذاهب في نشر قيم التسامح والتعاون والتكامل، وتجاوز التباينات والفروقات المذهبية وخلق التكامل بين أبناء المجتمع الواحد، وتربية النشء وفق مبادئ ومفاهيم وتعاليم ديننا الاسلامي الحنيف المعززة لقيم الوحدة والتوحد، هذا الفراغ الذي أحدثه غياب العلماء المعتدلين والتربية الدينية السليمة كان لابد أن يُملأ من قبل دعاة وعلماء متشددين، متصلبين ومتطرفين في قناعاتهم ومواقفهم المذهبية، ونهجهم العملي الذي أساء إلى الثقافة الإسلامية المستمدة منابعها من الوحي الإلهي والسنة النبوية والعقل في تطبيقها، والقائمة على الوسطية والاعتدال والتسامح والحوار.. لقد عمد هؤلاء المتطرفون بوعي أو بدون وعي إلى الإساءة لهذه الثقافة واستبدالها بقناعات أيديولوجية وضعية وخطاب سياسي ديني يستمد مفرداته ومفاهيمه ومنابعه من مصادر مذهبية مشوهة مكرسة للإساءة إلى الدين وتمزيق وحدة الأمة على أساس من المفاهيم العقائدية المغلوطة والنزعات العصبية الضيقة والغلو والتطرف. هذه التباينات ظهرت في بعض مديريات محافظة صعدة بشكل أكثر حدة من غيرها من المحافظات، فهذه المحافظة التي كانت تعتبر أحد أهم معاقل المذهب الزيدي، أصبحت على يد الشيخ الوادعي أحد أهم المراكز العلمية الدراسية السنية، الأمر الذي جعل من المحافظة واحة صراع وأرضية ملائمة لنشاط تربوي عقائدي مذهبي متطرف، كرس كل طرف إمكاناته لمواجهة الآخر والتصدي له بمختلف الوسائل، وفي ظل الظروف غير السوية برزت ظاهرة التجهيل المتعمد لقطاع واسع من السكان بقضايا الدين الإسلامي والخلافات المذهبية، وهو ما أتاح لمشايخ الإسلام السياسي إمكانية التوظيف السياسي الخاطئ للخطاب الديني، كما أن التعبئة المتطرفة للشباب سهل لهؤلاء المشايخ إمكانية تسخيرهم في خدمة أهدافهم ومطامعهم الدنيوية وتحويلهم إلى أدوات طيعة لتنفيذ مشاريعهم السياسية والإضرار بالوطن والمصالح العامة والخاصة للشعب. ما خدم ظاهرة الحوثية هو أن النواة الرئيسة لقاعدتها الاجتماعية تخلقت داخل النسيج الاجتماعي المتخلف، وقدمت نفسها لهذا المجتمع المتخلف باعتبارها حامية له وتسعى إلى تطويره، وإنشاء مراكز تعليمية لتدريس الشباب فكرهم ونظرياتهم الجديدة، متجاهلة في ذلك عشرات المراكز التربوية التي تهتم بتدريس علوم الدين الاسلامي الحنيف القائم على الاعتدال والوسطية، والكثير من هذه المدارس مرخصة من قبل الدولة. ولتحقيق أهدافهم وتطلعاتهم المشبوهة، اعتمدوا الترويج لما وصفوه بالظلم الذي يتعرض له أتباع المذهب الزيدي، ويتباكون على تراثه وتاريخه، ويحملون الدولة مسؤولية إخفاقهم في مواجهة من يخالفهم من التيارات والمذاهب الدينية الأخرى، من خلال هذه الدعوة أرادت الحوثية الوصول إلى وسيلة تمكنها من اعتلاء موجة المذهب الزيدي بل ومصادرته واحتوائه، ووضعه في واجهة الفتنة التي أشعلوها وتحويلها إلى فتنة مذهبية تضع أبناء الطائفة الزيدية في مواجهة إخوانهم من المذاهب الأخرى. فشل الحوثية في احتواء المذهب الزيدي، وتسخيره لخدمة مشاريعها، وكذلك فشلها في تحويله إلى أداة حوثية مسخرة لإثارة فتنة طائفية، هذا الفشل يمثل في نظر العديد من علماء المذهب الزيدي أحد الأسباب الرئيسة لتبنيها الواضح والعلني للتمرد على الدولة وإشهار السلاح في وجهها وقيامها بالاعتداءات المتكررة على المواطنين وعلى أفراد القوات المسلحة والأمن، أما السبب الآخر فيتمثل في رغبة الحوثية في الارتباط بمرجعية وامتداد مذهبي خارجي يضمن لها دعماً مؤسسياً قوياً ومنتظماً في مختلف الجوانب (عقائدية، سياسية، إعلامية، معنوية، مادية وعسكرية وخبرات فنية). قناعة الحوثيين في أن وجودهم واستمرارهم بشكل استثنائي، ونتوء غريب داخل النسيج الاجتماعي والعقائدي للشعب اليمني، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إطار أوسع ينتمون إليه ويوفر لهم مقومات البقاء وعوامل الاستمرارية، وهذه القناعات تتواءم مع تطلعات الآخر الخارجي ورغبته في تصدير ما يسمى بالثورة، وإيجاد قاعدة متقدمة له لنشر التشيع في جنوب الجزيرة ومد نفوذه وتواجده السياسي والمذهبي والفكري، وجعل الحوثية قاعدته المتقدمة في حرب المصالح والنفوذ داخل المنطقة. على مدى ثلاثة عشر قرناً مثلت محافظة صعدة بموقعها وظروفها الجغرافية الوعرة وخصوبة أراضيها وثرائها في الإنتاج الزراعي والحيواني والحرفي الصناعي، أهم معاقل النظام الإمامي البائد، وقلعته الدفاعية الحصينة والمنيعة وقاعدته الحربية القوية، منها تنطلق موجات المد الإمامي للسيطرة على بقية المناطق، وإليها تنحسر قاعدة الحكم الإمامي وتتحصن فيها أمام مد القوى السياسية الأخرى، وصعدة كانت محور وساحة صراع الأئمة مع بعضهم البعض، وقد تعرضت عبر تاريخها مرات عدة للدمار والخراب بسبب حروب الإخوة وأبناء العم على كرسي الإمامة، ويسجل التاريخ أشهر هذه الجرائم على يد أبناء الإمام الهادي عندما تصارعوا على كرسي الإمامة ودمروا مدينة صعدة القديمة وعاثوا فيها خراباً استمر قرابة ستة قرون. طبيعة تفكير الحوثية وقناعاتها وأدواتها في التعامل مع محافظة صعدة كمكون جغرافي واقتصادي واجتماعي، لن يخرج عن السياق التاريخي للفكر الإمامي، فالموقع الجغرافي المنعزل والطبيعة الطبوغرافية الوعرة، وخصوبة أراضيها ووفرة خيراتها، والإرث السياسي التاريخي والاجتماعي، وضعف اندماجها الحضاري، ومعدلات التنمية، بالإضافة إلى التخلف والفقر والبطالة والتركيب القبلي والغلو المذهبي، جميعها عوامل نجحت الجماعة الحوثية الإرهابية في استغلالها لخدمة مشاريعها السياسية الظلامية، وقناعاتها الدينية الضلالية، والتمرد المسلح والخروج على الدستور والإجماع الوطني، وبالتالي تحويل المنطقة وسكانها ومواردها إلى وقود لحروبهم ضد الوطن والشعب. وفي تجاوز صارخ للإجماع الوطني والتشريعات القانونية والدستورية التي تحرم إنشاء أي تنظيم سياسي أو حزبي على أساس مذهبي أو مناطقي أو جهوي، وتحرم أيضاً استحداث وإنشاء المليشيات والتنظيمات العسكرية غير الرسمية وغير الوطنية، برزت الحوثية كظاهرة لها تنظيمها العسكري الخاص المزود بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وفي العام 2004م أطلت الحوثية على الرأي العام المحلي والدولي من قمم جبال مران معلنة عن وجودها ومشاريعها من خلال أول تمرد عسكري وخروج علني على الشرعية الدستورية، كاشفة عن وجهها البشع وحقيقتها المرعبة ومنهجها التدميري وخطرها الكبير على المجتمع وعقيدته الدينية، مقدمة نفسها على مسرح الأحداث الوطنية عبر سلسلة من الجرائم المقترفة بحق الوطن والشعب، كظاهرة متمردة غير وطنية في أهدافها وأدواتها العملية ومشاريعها السياسية الظلامية المكرسة لإعادة إنتاج النظام الإمامي بكل ويلاته ومآسيه وتاريخه الأسود في واقع اليوم على أنقاض النظام الجمهوري الوطني الديمقراطي، وإنجازات الشعب وجماجم الأبرياء من أبناء الوطن، متسلحة بفكر عقائدي مذهبي متطرف يستمد مفرداته السياسية ومضامينه الروحية من العنصرية السلالية المبنية على التمجيد والولاء المطلق لشريحة اجتماعية من السكان يطلقون عليها الأئمة والأولياء ويدعون عصمتها وتفردها بامتلاك الحقيقة وقداستها الدينية ونقائها العرقي وسيادتها على غيرها من البشر، ويدعون بحقها الإلهي المتوارث باحتكار السلطة والثروة والقوة، متجاوزين بمعتقداتهم هذه كل الشرائع والأحكام الربانية والشرعية التي تساوي بين بني البشر والتفاضل بينهم على أساس التقوى. مسار الأحداث التي شهدتها بعض مديريات صعدة أكد بجلاء أن الحوثية كظاهرة عابرة جاء فعلها خارج إطار قوانين التطور التاريخي وتمثل بكل المعايير حركة رجعية متخلفة في مقاصدها واتجاهاتها وأهدافها، لا تحمل ضمن أرضيتها الفكرية سوى معاول الهدم والخراب والاقتتال والتمزق الاجتماعي، وتمثل من حيث مضامينها وأهدافها وخطابها السياسي الديني وأدواتها العملية الوجه المعاصر للإمامة، وامتدادها العضوي، ويؤكد العديد من المؤرخين والباحثين المختصين أن البدايات الحقيقية للعمل التنظيمي السري لبقايا النظام الإمامي البائد، وفي أوساط المجتمع تعود إلى السنوات الأولى لانتصار الثورة اليمنية وهزيمة القوى الإمامية ومرتزقتها في معارك السبعين يوماً، وأن الظاهرة الحوثية تمثل أحد الأطوار المرحلية المتقدمة في مسار هذا النشاط الإمامي التآمري ضد الوطن والنظام الجمهوري، ومثّل هذا الطور العلني ظاهرة حتمية تستجيب من حيث وسائلها وآلياتها العملية لشروط العصر ومتغيراته الداخلية والخارجية، كما أنه يمثل استجابة لإرادة وحسابات قوى ومصالح خارجية تمسك بالكثير من خيوط اللعبة وأدوات التحكم بها عن بعد، ولهذا فإن إعلان التمرد العسكري ورفع السلاح في وجه الدولة منذ العام 2004م كان بسبب القراءة الخاطئة للمتمردين وحلفائهم لمعطيات الواقع الوطني وأحداثه ومتغيراته وتوازنات القوى والمصالح على الساحة الوطنية، وتهويلهم غير المبرر لصعوبات الواقع وإشكالاته واختلالاته المختلفة، فمن خلال تلك القراءات الخاطئة للواقع واستقرائهم المغلوط لآفاق المستقبل اعتقد الحوثيون أن الواقع بشروطه الموضوعية وعوامله الذاتية وتوازناته الإقليمية والداخلية مهيأ أمامهم لنجاح هذه الظاهرة الحوثية وتحقيق أهدافها، خصوصاً بعد أن شعروا بأن حركتهم قد بلغت من القوة والنفوذ ومصادر الدعم والتأييد والتحالفات مرحلة يستحيل معها على الدولة القضاء عليها واجتثاثها. إعلان التمرد المسلح والخروج على الشرعية الدستورية في العام2004م، مثل نقطة تحول نوعي في مصير هذه الظاهرة الحوثية ومستقبلها، ووضعها أمام مفترق حاسم بين خيارين متناقضين أحدهما يقودها إلى نهايته الحتمية السريعة، والآخر يوفر لها المزيد من عوامل القوة وشروط الاستمرارية ويؤجل نهايتها إلى حين تنتهي وظيفتها والحاجة إليها من قبل بعض الأطراف المستثمرة لها. ففي الخيار الأول نجد أن الجرائم التي اقترفتها هذه العصابة قبل وأثناء العمليات العسكرية، وخطابها السياسي والإعلامي والديني المصاحب لها داخلياً وخارجياً، كشف عن الكثير من الحقائق المجهولة عن طبيعة هذه الجماعة ومشاريعها السياسية وخطرها الجدي على حاضر الوطن ومستقبله، الأمر الذي قاد إلى تشكيل وعي وقناعات وطنية جمعية بضرورة اجتثاث هذه النبتة الشيطانية وتخليص المجتمع من دائها الخبيث، عبر الاستخدام الفاعل لإمكانات المجتمع المادية والروحية ومؤسسات الدولة الشرعية المنوط بها التعامل مع مثل هذه الجرائم. وفي الخيار الثاني المقابل هناك الحوثيون وحلفاؤهم المباشرون وغير المباشرين وتجار السياسة والحروب وهؤلاء كانوا حريصين على تجنيب جماعة الحوثي الهزيمة الساحقة، وحرصوا على بقاء واستمرار هذه الفتنة وتضافرت جهودهم مع مساعي بعض الأطراف الداخلية والخارجية من أصحاب الحسابات السياسية والمصالح الذاتية الساعين إلى توظيف هذه الفتنة واستخدامها الانتهازي كورقة سياسية وأمنية واجتماعية ومذهبية بما يخدم برامجهم ومشاريعهم ومصالحهم الحزبية.. هذه الجماعة المتمصلحة رغم قلة عددها إلا أنها تمتلك الإمكانات والوسائل العملية والكثير من الملاكات الفكرية والسياسية وقدرات هائلة على المناورات السياسية والتضليل على الرأي العام من خلال خطاب سياسي إعلامي قادر على توظيف الشعارات الوطنية في غير أهدافها الحقيقية، علاوة على تميز هذه القلة بمهنية عالية وخبرات عريقة في المتاجرة السياسية بقضايا الوطن لتحقيق أهدافها ومصالحها. ومن منطلق الحسابات الخاصة غير الوطنية تبنت هذه القلة موقفا خارج إطار الإرادة الشعبية والإجماع الوطني، وضد توجهات الدولة في التصدي الحاسم لهذه الفتنة ومعالجة أسبابها وجذورها المختلفة وتجفيف منابعها بوسائلها المختلفة، وتحت شعار الحريات والحقوق الديمقراطية قادت هذه الجماعات مواقف داعمة للحوثية ووفرت لها مظلة إعلامية دعائية وسياسية وقدمت خطاباً سياسياً إعلامياً يبرر جرائم الحوثية ويسعى إلى تضليل الرأي العام وتحويل القضية من طابعها الأمني الجنائي والخروج عن النظام والقانون والشرعية الدستورية إلى قضية سياسية وطنية ذات خصوصية دينية مذهبية وحقوقية مشروعة ديمقراطياً، وأضفت عليها الكثير من الأبعاد الإقليمية والدولية والإنسانية بهدف إخراجها من إطارها الوطني كقضية أمنية داخلية، ومن ثم تدويلها وتشويه صورة اليمن والتزاماته بالتشريعات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والحريات السياسية والإعلامية والمدنية والعقائدية. اتساع قاعدة المتمصلحين والمتاجرين والمنتفعين بفتنة الحوثية بعد المواجهات المسلحة مهّد الأرضية لظهور خطاب إعلامي سياسي على الساحة الوطنية وفي الخارج يحاول أصحابه من خلاله تقديم العصابة الحوثية باعتبارها حركة اجتماعية سياسية صحية، وشكلاً من أشكال المعارضة الديمقراطية المشروعة تعمل من اجل التغيير والإصلاح والتقدم، وهذا الخطاب يحرص على تبرير جرائم هذه العصابة ضد الوطن ويقدمها للرأي العام باعتبارها وسائل وأدوات تغيير مشروعة ضمن الخصوصية الوطنية والاجتماعية والتطور التاريخي للمجتمع اليمني، والأخطر من ذلك تصوير الحوثية في كونها ضحية اعتداء غير مبرر من قبل الدولة التي تجاهلت مطالبها وتسعى إلى منعها من ممارسة شعائرها الدينية المذهبية.. وذلك كله محض افتراء.. وتزييف للوعي وتضليل للعقول. * رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية