مصر ما بعد التنوير تدلف اليوم بخطى سريعة إلى عصور الظلام. ربما كان الظلام الحقيقي الذي يبدو في انقطاع التيار الكهربائي مؤشرا رمزيا إلى حالة الظلام الفكري والإداري. لهذا بت أتتبع منافذ بيع الهيئة المصرية العامة للكتاب لشراء كثير من الكتب التي يتوقع أن تختفي بعدما تترسخ معالم العهد الإخواني بكُلِّ آلام المُحبّين وأشواقهم، بل وبكل إشفاقهم نقول : نعم، مصر تغرق في الظلام. ظلمات بعضها فوق بعض، وظلمات بعضها بإزاء بعض، في بحر لُجيٍّ لا يعرف أحد منتهاه. مصر تغرق في الظلام، ليس على مستوى المجاز فحسب، بل وعلى مستوى الحقيقة أيضا. هذا من جهة ضبط الرؤية بحدود ثنائية: الحقيقة والمجاز، أما من جهة التعاقب الزمني، فهي تغرق في الظلام، لا على مستوى ما تحقق في الماضي القريب، ويتحقق الآن في الواقع فحسب، وإنما على مستوى المتوقع أيضا. وكما قال البحتري قديما : لعمرك ما المكروه إلا ارتقابُه وأبرحُ مِمّا حَلَّ ما يُتوقّع ظلام من ظلام، يقود إلى ظلام. ظلام الرؤية الناتج عن محدودية المعرفة، ومحدودية التجربة، يقود إلى تبني خيارات كارثية تعكس مستوى الجهل بالجغرافيا، وبالتاريخ، وبالإنسان الفاعل في المكان والزمان، الإنسان فردا وجماعة. وتكون النتيجة أن تتراجع الاهتمامات الثقافية ذات البعد الانفتاحي (والمهمومة بالإنسان ضرورة)؛ إن لم تُحارب صراحة، في الوقت الذي تتخبط فيه الإدارة الحاكمة، وتعجز عجزا استثنائيا عن تسيير أبسط أبجديات الحياة اليومية التي تطال تفاصيل حياة كل الناس بلا استثناء. المثقفون الذين هم ومضات الضمير الساهرة على حماية جناب الإنسان (واقعا أو افتراضا) يعتصمون أمام مبنى وزارة الثقافة؛ اعتراضا على محاولات مكتب الإرشاد أخونة الوزارة، وتحويلها من وزارة ثقافة تحمل مهمة نقل وتعميم الإشعاع الحضاري، إلى وزارة دعاية لإيديولوجيا الجماعة الحاكمة بأمر الله!. إنهم (= المثقفون) يُشعلون قناديل الأمل في سماوات الإبداع؛ حتى لا تُختطف روح الكلمة الحرة، في الوقت الذي تُصارع فيه مُولدات الكهرباء زمن المجاعة الإخوانية، فتسقط من الإعياء بين الحين والآخر - رغم تظاهرها بالصمود-؛ لتلتحف مصر - من جراء إفلاسها المادي والمعنوي - برداء الظلام. الأزمة التي تمر بها مصر اليوم هي أزمة خانقة، لا تسمح لأي أمل ولو بالانتعاش الكاذب؛ لأنها أزمة تفتقد الحلول، إلى أي نوع من الحلول؛ ولو كانت على مستوى الحلول الإنقاذية ذات الطابع الآني والمباشر . كما وأنها - في الوقت نفسه -أزمة متعددة الأبعاد، فمن تردي الحالة الأمنية، ومن تهاوي الاقتصاد إلى درجة انهيار الجنيه المصري الذي لا زال يواصل انهياره، إلى انسداد الأفق السياسي على مستوى إمكانية الوفاق بين الفرقاء، بل وإلى تململ الحلفاء الناتج عن سوء الظن المتبادل؛ نتيجة استئثار كامل بكل مسارات اتخاذ القرار السياسي والإداري، مع تخبط وارتباك لا تخطئهما عين المراقب في هذا وذاك. كنتُ قد كتبت من قبل عن ملامح هذا الفشل الذريع في تسيير أمور البلاد، بعد أن كان كثيرون يراهنون على الفشل في تحقيق معدلات تنمية معقولة. لم يعد الأمل معقودا على تحقيق شيء من الإنجاز المتجاوز لما حققته الجمهوريات الثلاث ( = الناصرية / الساداتية / المباركية). تراجع الأمل إلى مستوى القناعة بالعودة إلى نمط المعيشة السابق، خاصة بعد أن دخل الناس معركة المواجهة مع متطلبات الحياة اليومية المباشرة، والتي لا تحتمل التأجيل ولا تنفع معها كل محاولات التسويف والاعتذار. على مدى ما يناهز العشرين عاماً من المعرفة المباشرة والمتواصلة بأحوال مصر؛ لم أرَ مصر في يوم من الأيام على مثل هذه الحال الرثة التي لا تليق بمصر، مصر التي تستحق أكثر من هذا بكثير. على مدى عشرين عاما عاينت فيها الواقع المصري، مرت مصر بأزمات، ولكنها استطاعت أن تتجاوزها، لا بالحلول المثلى التي لم يكن كثير منها متاحا آنذاك، ولكن بما يُبقي على الرمق أحيانا، وبما يبعث على الأمل في أحايين أخرى. المهم أن المركب لم يكن يغرق كما هو اليوم، كان يعبر - بسلام - رغم كل العواصف ورغم كل الأنواء، بل ورغم كل الثقوب. ومن هنا، فهذا المستوى من التردي لم يسبق للمصريين أن عايشوه، ولم يسبق للمراقب الراصد أن لاحظه من قبل. فمصر تعيش اليوم أزمة الحياة اليومية على نحو مأساوي، وكأنها قد خرجت للتو من حرب طاحنة سلبتها كل مقومات الحياة. طوابير الانتظار على محطات البنزين تمتد لمسافات طويلة، حتى أصبح الانتظار لمدة ساعتين أو ثلاث، بل وربما أربع، لتزويد المركبة بالوقود، منظرا معتادا لا يبعث على الاستغراب. كما وأن انقطاع التيار الكهربائي ثلاث أو أربع أو خمس مرات في اليوم الواحد، وفي كل يوم بلا استثناء، ولساعات قد تطول، أصبح هو النمط السائد في كل المحافظات، وفي كل المواقع، حتى السياحي منها، وكأنه جزء من خطة توزيع الغضب والرفض، بعد توزيع اليأس والإحباط. أتنقل بين مُدن الساحل الشمالي صغيرها وكبيرها منذ شهرين تقريبا، فلا أرى إلا ما يجعلني أشعر بأنني أعيش حالة غير طبيعية، لبلد فارق الحياة الطبيعة للإنسان. لم يحدث لي هذا الشعور على امتداد العامين اللذين أعقبا الإطاحة بمبارك، رغم كل الزلازل السياسية والاقتصادية التي ألمت بالبلاد. لكن، بعد عام من إدارة جماعة المرشد لمصر، بعد عام من الاستئثار، ومن الاتكاء على فراغ التجربة، وصلت مصر إلى هذه النتيجة المفجعة التي لا أظن أنها موجودة حتى في أشد البلاد تخلفا وانحطاطا، بل وأشدها فوضى وانفلاتا؛ إلا على سبيل الاستثناء!. لا يمكن أن تستشعر مأساوية الواقع حتى تعايشه عن قرب، وتتمرس به على مدى زمني لا يجعل من مرورك به مجرد استثناء عابر. فالمأساة العابرة مهما كانت قسوتها يمكن احتمالها، بعكس الحالة المأساوية التي تفرض عليك التعامل معها على مدى زمني طويل، بحيث تجبرك على تصورها كنمط حياة. في مصر الإخوانية، تكاد الحياة أن تتوقف في كثير من مظاهرها. الكل محبط، وكل ما يحدث لا يدعو إلا إلى مزيد من الإحباط. كنت ألوم كثيراً الذين كانوا يعلنون عن إحباطهم، وأرجع كل مؤشرات الغضب إلى يأس الغارق في اللحظة الراهنة التي تحتويه. اليوم بت أعذرهم ؛ لأن لا شيء إيجابيا يحدث على أرض الواقع. بل العكس هو ما يحدث، فالأحداث المحبطة تتوالى بوتيرة متصاعدة، حتى إنها تدفع حتى أشد الناس تفاؤلا إلى إطلاق النار على أبسط الأحلام. لا تستطيع الهروب من هذا الوضع الكارثي / المأساوي. تلامس تفاصيل هذا الواقع المأساوي كل مقومات حياتك اليومية، تستولي عليك بشموليتها. المأساة أوسع وأعمق مما تتصور. كيف يستطيع مثلي أن يعمل في جو مرتبك بل جو مضطرب. تخيل نفسك وقد عدت قرونا إلى الوراء، إذ يجبرك الواقع على أن تقرأ كثيرا على ضوء الشموع، بينما جهازك المحمول يصبح عديم الجدوى في ظل الانقطاع المتكرر واللامتوقع للكهرباء، فضلا عن الارتباك الحاصل نتيجة عدم قدرتك على ضبط حركة التنقل، فحالات الاختناق المروري، والتي لم تعد محصورة في المدن الكبرى فحسب، تجعل وقتك مبعثرا على كل صور المفاجآت التي قد تجعل من مجرد (مشوار) صغير، سلسلة من المعارك العبثية مع الحدث ومع الزمن، وهي معارك رغم تفاهتها، إلا أنها قادرة على أن تنهكك جسديا ونفسيا، وتسلبك - بلا مبرر - أجمل لحظات السكينة والصفاء. الغريب في كل هذا، والذي لا أجد له تفسيرا معقولا (إذ الظاهر أن ما يجري يقع خارج نطاق المعقول!) إلى هذه اللحظة، هو أن كل هذه المآسي التي تطحن واقع الناس، والتي هي بالتبعية تقتل البقية الباقية من أحلامهم، لا تقلق المسؤولين في الإدارة الإخوانية كثيرا. فالإدارة الإخوانية لا ترى في كل ما يحدث شيئا يدعو للغضب، بل ولا يدعو للقلق؛ ما دام أن الشعور بالإحباط مصحوب بيأس من كل الأشياء ومن كل الأشخاص، بحيث لا يدفع إلى نوع من التمرد العام. هل هذا التصالح مع كل هذا الفشل الشامل يُمثّل سلوكا متعمدا، بحيث يجري تطبيع الفشل، خاصة وأن غضب الناس من هذا الواقع المأسوي الناتج عن سوء الإدارة، بات غضبا محبطا يشل الإرادة؛ لأن المعارضة التي كانت في يوم من الأيام أملاً، لم تعد أملاً بعد أن عرّتها المنعطفات السياسية، وكشفت عن هشاشة وعيها، بل وعن تفاهته، بحيث أصبحت في الوعي الجماهيري العام (لا في دعاوى الكوادر الحزبية المنتظمة التي تدين بالولاء عمليا) جزءا من تركيبة الفشل الحاصل. فكل الممارسات التي اضطلعت بها المعارضة، وعلى مدى عام كامل، أقنعت الجماهير العامة / الشعبية التي لا مصالح حزبية لها، أنها (= المعارضة) لا تمتلك مفاتيح الأمل، وأنها - لو جلست في قمرة القيادة - فلن تكون الأفضل، هذا إن لم تكن الأسوأ. وهو ما تعضده كثير من التوقعات المبنية على سوابق قولية وفعلية لرموز المعارضة في أوقات متفاوتة موزعة على امتداد هذا العام. لا يضارع فشل الحكومة إلا فشل المعارضة. المعارضة عاجزة كما الحكومة، إلى درجة أن أصبحت المعارضة معارضة لصالح الجماعة الحاكمة؛ لأنها تدعمها دون أن تريد ودون أن تشعر، وذلك عندما تتفوق عليها في مستوى تردي الأداء السياسي، فضلا عن التشرذم والتشظي وغياب الجماهيرية المتماسكة. وهو ما يجعلها غير جديرة بمهمة التغيير حتى لو افترضنا (وهو افتراض يعاكس الواقع) جودة الأداء السياسي. الواقع يشي بأن هناك ما يشبه الإجماع على إفشال المرحلة السياسية الراهنة. كل الأطراف تشترك في هذا بوعي أو بغير وعي. الجماعة الحاكمة، وهي أكثر الخاسرين جراء الفشل، تشترك - دون أن تعي - في العبث بمكونات هذه اللحظة السياسية الحرجة. والحلفاء التقليديون، الذين يصرح بعض رموزهم بتكفير من يعارض الحكومة، يشتركون - بغباء - في تعزيز مستويات الإرباك وفي تصعيد حدة الصراع. فإذا كانت الحكومة وحلفاؤها يدعمون - من غير وعي - مسيرة التضحية بمصر، مصر الوطن، لمصالح موهومة، فإن المعارضة تدعم هذه المسيرة عن قصد، معتقدة أن فشل حكومة الإخوان سيفتح لها الطريق إلى كراسي الحكم، والتي هي (= كراسي الحكم-) الهدف الحقيقي لكل الفرقاء، رغم كل الشعارات الفارغة التي لا تتكشف إلا عن مزايدة سمجة وادعاء كاذب مفضوح. لم يكن أحد فيما مضى يُصدّق أن الخطاب التكفيري سيتجرأ؛ فيصعّد من موقفه إلى مستوى التحدث بلسان السياسي، بل ومن موقف الشريك العلني. اليوم (ولا تملك إلا أن تصدق ما تراه عيناك وما تسمعه أذناك) نجد من يُصرّح - دون أن يخشى التبعات القانونية، ودون أن يضع أي اعتبار للرأي العام - بكفر كل مَن يعارض الحكومة القائمة، يجأر بهذا لا في زاوية خاصة، ولا في مسجد ناء في أحد هوامش المدينة المترهلة، بل في لقاء جماهيري عام، لقاء يحمل طابع الرسمية السياسية، ثم يجد من يمنحه العذر تلو العذر، والتأويل بعد التأويل، فضلا عن المتماهي الذي يمنحه التأييد التام. مصر ما بعد التنوير تدلف اليوم بخطى سريعة إلى عصور الظلام. ربما كان الظلام الحقيقي الذي يبدو في انقطاع التيار الكهربائي مؤشرا رمزيا إلى حالة الظلام الفكري والإداري. لهذا بت أتتبع منافذ بيع الهيئة المصرية العامة للكتاب لشراء كثير من الكتب التي يتوقع أن تختفي بعدما تترسخ معالم العهد الإخواني، خاصة بعد أن بدأت ملامحه واضحة في السياسة الجديدة لوزارة الثقافة، والتي من المتوقع أن تنقض على كل تراث التنوير، إما بالمصادرة الصريحة - إذا ما سمحت لها الظروف -، وإما بالإهمال. في علاقة رمزية دالة، نلاحظ أن مطار القاهرة الدولي (وهو رمزية انفتاح) يقرر إيقاف رحلاته بعد الواحدة ليلا إلى السادسة صباحا، لنقص إمدادات الكهرباء، في الوقت الذي يجري فيه تغيير معالم الخريطة الثقافية لمصر من خلال الأخونة التي تجري في وزارة الثقافة على قدم وساق كما يُقال !. كل هذا الواقع الإظلامي المحبط أشد ما يكون الإحباط، يواجهه المصريون بالغضب، كما يواجهونه بالسخرية . ففي ظل تنامي سلوكيات الوعظ، ومحاولة إلهاء الناس عن مأساتهم التي تتصاعد حدة كل يوم، وذلك بالإلحاح على استحضار مرحلة ما بعد الموت، المرحلة الما بعد دنيوية، يذكر المصريون - بسخرية لاذعة - أن قطع الحكومة للتيار الكهربائي على هذا النحو المتكرر يوميا إنما هو تدريب عملي واقعي للناس كي يتعودوا على (ظلام القبر)، ذلك الذي تتفنن في عرض صوره المواعظ في مصر اليوم، أي أن الحكومة تجاوزت مهمتها في إدارة شؤون الأحياء إلى إدارة شؤون الأموات، أي أنها لم تأخذ على عاتقها مصالح حياة الناس فحسب، بل أتبعت ذلك بمصالح موتهم أيضا، فهي تتكفل بإعدادهم لما بعد الموت بتدريبهم على احتمال ظلام القبر من خلال قطع التيار الكهربائي بالتعاقب. وكم هو جميل أن يُعلق الكاتب المصري القدير: علي سالم، على هذا القطع المتعمد للكهرباء، وعلى النّكت المصرية الساخرة منه بقوله - ساخرا من شدة الألم - : " هو برنامج لتأهيل الأحياء ليكونوا أمواتاً جيّدين "!..