كتاب باتريك سيل الجديد «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» يتخذ من أحد أبرز زعماء الاستقلال وواضعي الميثاق الوطني عام 1943، نموذجاً للزعماء العرب الذين عاشوا مراحل الانتقال الصعبة من العهد العثماني الى عهود الانتداب والاستعمار، وصولاً الى المشكلات التكوينية للدول العربية الحديثة المترافقة مع مأساة فلسطين والصراع العربي - الاسرائيلي المديد. ورياض الصلح في كتاب باتريك سيل هو نموذج للقادة الذين ضاق حلمهم القومي العربي أو صار واقعياً فانصرفوا الى تكوين الدولة الحديثة مقرونة بعلاقات قومية عبّرت عنها جامعة الدول العربية لفترة قبل عجزها أمام وطأة المشكلات. زعيم عروبي ثم لبناني - سوري ثم لبناني، لكن حياته التي انتهت بالاغتيال جسدت حجم المشكلات التي اهتم بها ولم تقعده، مشكلات محلية جداً، كأن يصالح عائلات وزعامات في منطقة محدودة من لبنان، لكنها تتسع الى الاقليم كله اهتماماً بمشكلة فلسطين منذ نذرها الأولى وبالصراع الدولي على المنطقة الذي بدأ مع ضعف السلطنة العثمانية وعنف مع انهيار السلطنة والسيطرة البريطانية - الفرنسية، والى حدّ ما الايطالية والاسبانية، على العالم العربي. يصدر الكتاب بعد أيام في ترجمة عربية أنجزها عمر سعيد الأيوبي، وتنشره الدار العربية للعلوم - ناشرون في بيروت، التي أذنت ل «الحياة» بنشر مقاطع من الكتاب قبل اطلاقه. في ما يلي حلقة أولى: في صيف 1920 أصبح رياض الصلح مطلوباً للمحاكمة، وفاراً من «عدالة» الاحتلال الفرنسي للمرة الأولى في حياته، وإن لن تكون الأخيرة. فقد هزمت قوات الجنرال غورو الجيش السوري الصغير، ودخلت دمشق، وقضت على حكومتها، ونفت الأمير فيصل في 27 تموز (يوليو). وفي اليوم نفسه غادر رياض ونحو سبعين آخرين من القوميين العرب المدينة بالقطار، قبل أن تتسنى للفرنسيين فرصة التعرّف إليهم واعتقالهم (...). عندما تفرّق الجمع، ذهب بعضهم إلى القاهرة، وبعضهم إلى شرق الأردن، ورجع آخرون إلى بلادهم حيث تواروا عن الأنظار. كان ذلك بداية انقسام الحركة القومية إلى ثلاث شعب: ظلّ فريق منهم موالياً للهاشميين، خصوصاً بعدما أصبح فيصل ملكاً على العراق وشقيقه عبدالله أميراً على شرق الأردن. واجتمع نفر حول خصم الهاشميين، عبدالعزيز بن سعود، سلطان نجد في شبة الجزيرة العربية (آنذاك). ولجأ فريق ثالث إلى مصر. اتجه رياض شمالاً نحو بيروت. كان في السادسة والعشرين من عمره، عاطلاً من العمل، وغير متزوّج، ومن دون آمال سوى ما يحدو المنفي الذي سيدخل معترك السياسة، وليس لديه هدف سوى مواصلة القتال (...). كانت والدته تمنّي النفس في أن يبقى معها في منزل العائلة في ميناء الحصن، لكنها تدرك مثله أن وجوده هناك سيلفت الأنظار على الفور دونما حاجة. لذلك تقرّر أن يختبئ رياض في منزل شقيقته بلقيس وزوجها نسيبه سامي الصلح، إلى أن تتضح نيّات المفوّضية الفرنسية العليا تجاهه (...). لم يدم اختباء رياض في منزل صهره سوى أسبوع، فقد عاد سامي على عجل من قصر العدل ذات يوم، ونقل إلى رياض أخباراً مقلقة بأن محكمة عسكرية فرنسية في دمشق حكمت عليه بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى في 9 آب (أغسطس) (...). فكّر رياض للوهلة الأولى بأن يستقلّ سيارة ويهرب إلى فلسطين (... ولكن تقرر أن) يسافر إلى فلسطين بحراً في قارب صيد صغير سيغادر في الليلة التالية من مرفأ صيد صغير قرب مسجد عين المريسة عند واجهة بيروت البحرية (رُدم في وقت لاحق لتوسيع الكورنيش البحري). اختبأ رياض في كوخ معتم ورطب يقطنه خادم المسجد. وعلم هناك أن خير الدين الأحدب وأمين أرسلان يعتزمان الهرب معه أيضاً. (...). وانطلق الجميع. كان خير الدين الأحدب وأمين أرسلان منهكين ومتوتّرين من جراء هذه الرحلة المخيفة، فناما في قاع القارب. وعندما انطلق ربان المركب في محاذاة الشاطئ، لامس رياض المياه بيده لكي يبقى مستيقظاً. هكذا بدأت حياة رياض في المنفى، واستمرت ثلاث سنوات ونصف السنة. ولم يُسمح له بالعودة إلى سورية ولبنان إلا في كانون الثاني (يناير) عام 1924. كانت تلك سنوات يأس وخمول تتخللها بعض الأوقات من العمل الجدي. من فلسطين توجّه إلى القاهرة التي كانت آنذاك المركز الرئيس للعرب الذين عقدوا العزم على محاربة الإنكليز والفرنسيين. وبعد أسابيع، سافر من القاهرة إلى روما للإقامة مع بعض أصدقاء الطفولة في فيا أبيا أنتيكا Via Appia Antica. وهناك تعّرف إلى الكونت غالتزو سيانو Galeazzo Ciano الذي كان في السابعة عشرة من عمره، وأصبح في ما بعد صهر بينيتو موسوليني ووزير خارجيته (...). وعندما شعر بالملل في روما، توجّه إلى فيينا، ولندن، والقدس، والإسكندرية، والقاهرة (...). لم يبدّد رياض تلك الفترة من حياته سدى، وهو يقترب من الثلاثين من العمر. ففي صيف عام 1921، حضر الاجتماع التأسيسي «للمؤتمر السوري - الفلسطيني» في جنيف، وهو هيئة ارتبط بها رياض ارتباطاً وثيقاً في الأعوام اللاحقة. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، دفعته الرغبة في الوقوف على مدى الطموحات الصهيونية إلى السفر إلى لندن للاجتماع بالقائد الصهيوني الدكتور حاييم وايزمن. وأتبع ذلك بعد شهر بمقابلة السير هربرت صموئيل Sir Herbert Samuel، المندوب السامي البريطاني في فلسطين. واجتمع في عمّان بالأمير عبدالله، الابن الثالث للشريف حسين، عقب قيام البريطانيين بإنشاء إمارة في شرق الأردن وتعيينه أميراً عليها. في القاهرة، رافق الكتّاب والمحررين البارزين والناشطين السياسيين. وأقام في برلين وباريس صلات مهمة استثمرها في وقت لاحق لخدمة القضية العربية. واكتسب خبرة دولية بتنقّله الدائم ذهاباً وإياباً بين أوروبا والشرق الأوسط. وتعلّم تدريجاً كيف يصبح لاعباً فاعلاً في اللعبة الكبرى التي ستقرر بعد وقت قصير مصير المنطقة (...). اتجه رياض في أواخر عام 1923 إلى حيفا، حيث حصل على العفو من السلطات الفرنسية. وعاد إلى بيروت في أوائل عام 1924 بعد غياب ثلاث سنوات ونصف السنة مزوّداً بشهادة حسن سلوك موقّعة من الجنرال ويغان شخصياً (...). وقع كثير من الأحداث بينما كان رياض في الخارج. فقد طرأ تغيّر جذري على المشهد السياسي للمنطقة بأكملها. فرضت بريطانيا وفرنسا انتداباتهما بالقوة على الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية. وسارع الصهاينة إلى تنفيذ وعد بلفور، على رغم معاداة السكان العرب المحليين الذين يفوقون السكان اليهود الجدد عدداً بعشرة أضعاف (...). بحلول عشرينات القرن العشرين، لم يعد في وسع بريطانيا وفرنسا الانغماس في الإمبريالية التوسّعية الصريحة التي كانتا تتبعانها في القرن التاسع عشر، بعدما تعاظم رفضها في المناخ السائد في ذلك الوقت. لكن احتلالهما الأراضي العربية وإخضاعها كان مدفوعاً بتأمين مصالحهما الذاتية الإمبريالية، ويجب النظر إليه بمثابة امتداد لتقليد التغلغل السياسي والاقتصادي للإمبراطورية العثمانية منذ قرون (...). وشكّلت الانتدابات، للبريطانيين على الأقل، نموذجاً جديداً للعلاقات بين العالمين المتقدم والنامي، لكنه نموذج تشوبه بقوة المواقف الاستعمارية القديمة (...). لبنان الكبير (...) قام الجنرال غورو، بناء على نصيحة خبيثة من روبير دو كيه، الأمين العام للمفوضية الفرنسية العليا الواسع النفوذ، بتقسيم بلادهم تبعاً لخطوط إقليمية ومذهبية. وكان الرأي السائد في الدوائر الاستعمارية في باريس وجوب تحويل المشرق إلى فسيفساء من المذاهب والأقليات (...). كان لبنان واحداً من تلك «الكيانات المترابطة». وبقيت خلفية إنشاء لبنان الكبير موضوعاً مثيراً للخلاف في العقود التالية. فكما أسلفنا، أنشئت متصرّفية جبل لبنان العثمانية التي حظيت بحكم ذاتي، بعد تدخّل القوى الكبرى عقب المجازر التي تعرّض لها المسيحيون في عام 1860. وصفت رقعة المتصرّفية دون إحكام في القانون العضوي الصادر في 6 أيلول (سبتمبر) 1864. لكن ظلّت حدودها غير واضحة لأن المسح الذي أجري في عام 1861 لم يعرّفها بطريقة صحيحة. وبما أن المتصرّفية كانت صغيرة جداً لا توفر سبل العيش لسكانها الذين يعمل معظمهم في الزراعة، فقد هاجر كثير منهم إلى الولايات المجاورة. وفي العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر استقر نحو 20,000 لبناني في تلك الولايات، لا سيما في أقضية بعلبك، وصور، وصيدا، وطرابلس، بالإضافة إلى مدينة بيروت، التي لم تكن جزءاً من المتصرفية التي تتمتع بالحكم الذاتي (...). عندما منح المجلس الأعلى في سان ريمو فرنسا الانتداب على سوريا ولبنان في نيسان (أبريل) 1920 أرسل الوفد اللبناني إلى مؤتمر السلام مذكرة إلى القوى الكبرى مطالباً بضمّ أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الأربعة، على أساس الحدود التاريخية والغالبية السكانية المسيحية، والضرورة الاقتصادية. هذه هي خلفية قرار الحكومة الفرنسية لمصلحة «الحدود الطبيعية» للبنان. في آب 1920 ألقى الجنرال غورو، المفوّض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان، خطاباً أعلن فيه بلسان حكومته: إن أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الأربعة تعتبر من الآن وصاعداً متحدة مع لبنان. وعلى هذا الأساس، أعلن في 1 أيلول 1920 عن إنشاء جمهورية لبنانية منفصلة ضمن حدود موسّعة أو «دولة لبنان الكبير». وقد شكّلت بإلحاق المدن والمناطق المحيطة بالمتصرفية العثمانية التي تتمتع بالحكم الذاتي (أي «جبل لبنان» القديم لعام 1861)، وتحديداً صيدا في الجنوب وأراضيها الداخلية في جبل عامل، وطرابلس في الشمال وأراضيها الداخلية في عكار، وسهل البقاع الغني في الشرق، وبيروت التي أصبحت الآن عاصمة الدولة الجديدة. وأُعلن أن الدولة الجديدة ستمتد من النهر الكبير إلى حدود فلسطين، ومن البحر حتى سلسلة جبال لبنان الشرقية. وأكّد ميلران، رئيس الوزراء الفرنسي ووزير الخارجية، هذا القرار في رسالة منشورة وجهها إلى البطريرك الماروني (...). سياسة المنفى تلك هي الصورة القاتمة التي واجهها رياض الصلح ورفاقه العرب في المنفى عندما تجمّعوا مكتئبين في أوائل عشرينات القرن العشرين في القاهرة، بعدما تبخّرت كل آمالهم بتحقيق الاستقلال. لقد وثقوا بالضمانات التي قدّمها لهم البريطانيون، وانضموا إلى قوات الحلفاء ضدّ العثمانيين، معّرضين أنفسهم للخطر الشديد. فدفعوا ثمناً باهظاً مقابل تغيير ولائهم بحماقة وقصر نظر. عُذّب قادتهم بوحشية في سجن جمال باشا الرهيب في القلعة في دمشق، وفي سجن عاليه. ومات المئات شنقاً، أو عانوا من النفي والفقر. واتضح الآن أن تلك التضحيات القاسية ذهبت سدى. كوفئ العرب، الذين حاربوا إلى جانب البريطانيين في سيناءوفلسطين وسورية، بتقسيم أراضيهم والقضاء على الحكومة العربية في دمشق، وفرض الحكم الاستعماري الفرنسي والبريطاني عليهم بالقوة، وتسليم فلسطين إلى الصهاينة. بل إن الفرنسيين اعتمدوا في سورية ممارسات جمال باشا القاسية بقتل الوطنيين أو نفيهم. واعتُقل معظم أعضاء الحكومتين اللتين شكّلهما الأمير فيصل، في وقت من الأوقات، وقدّموا أمام المحاكم العسكرية، أو صدرت بحقّهم الأحكام غيابياً. دفع هذا القمع الذي مارسه الفرنسيون العديد من السوريين إلى الفرار إلى أوروبا، وأميركا، والقاهرة. بدا المناخ السياسي في القاهرة أقل قسوة مما هو عليه في العواصم العربية الأخرى. ولم يكن رياض الصلح الوحيد المحكوم عليه بالإعدام بين الوافدين الجدد إلى القاهرة (...). وجّه رياض الصلح وزميلاه الأكبر منه سناً، الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري، من مكتب أنشئ في جنيف في النصف الثاني من عشرينات القرن العشرين، سيلاً من العرائض والرسائل والمذكّرات المتعلّقة بموضوع الاستقلال السوري. لم يكتسب رياض الصلح سمعته في حمل راية القومية العربية في دمشق وحلب وبيروت فحسب، وإنما أيضاً في قاعات الانتظار في الجمعية الوطنية الفرنسية، وفي مكاتب الأنباء في الصحف الفرنسية، وفوق ذلك كله، في مكتب جنيف الذي يمارس الضغوط على عصبة الأمم. فما من قومي عربي من أبناء جيله كان أكثر منه مثابرة في السعي للدفاع عن القضية العربية في أوروبا. وفي غضون ثلاث سنوات فقط، شهدت مكانة رياض الصلح وسمعته تغيّراً جذرياً. ففي عام 1924 لم يكن اسمه معروفاً كثيراً خارج دوائر المنفيين العرب، لكنه أصبح شخصية شهيرة في العالم العربي بحلول عام 1927. وهكذا لم يعد موضع اهتمام متزايد من السياسيين ووسائل الإعلام فحسب، وإنما من أجهزة الأمن في فرنسا والبلدان الأوروبية الأخرى أيضاً. الخطر على فلسطين في سنة 1918، التقى رياض الصلح في دمشق الحاج أمين الحسيني ونشأت صداقة بينهما. وهو شاب فلسطيني انضمّ إلى الأمير فيصل - على غرار الصلح - وسرعان ما لعب دوراً مركزياً في السياسة الفلسطينية. لا شك في أن كلاً منهما وجد في الآخر مزايا الهمّة والقيادة. وكلاهما يتحدران من عائلة مرموقة، ومتعلّمان وشديدا الاهتمام بالسياسة. وبعدما انتقلا من النزعة العثمانية إلى التوجّه القومي العربي، وجدا نفسيهما في مواجهة الواقع المرير للقوة الاستعمارية البريطانية والفرنسية والطموح الصهيوني (...). لم يكن من المفاجئ أن يتحد رياض والحاج أمين معاً في مواجهة الانتدابين البريطاني والفرنسي، والتصدّي للتهديد المصاحب لوعد بلفور. فهما يعتبران فلسطين جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، ويحظى استقلالها بأهمية مركزية للآمال العربية مثل استقلال سوريا ولبنان. فإذا سقط هذا الجسر البري الحيوي بين جناحي العالم العربي في آسيا وأفريقيا في أيد أجنبية، فسيلحق ضرراً لا يمكن إصلاحه بأمن الأمة العربية بأكملها. ولا تكون أي رواية عن حياة رياض الصلح منذ عشرينات القرن الماضي فصاعداً كاملة من دون الإشارة إلى مخاوفه من المشروع الصهيوني في فلسطين التي تنمّ عن بصيرة ثاقبة (...). عرف رياض اليهود في نشأته وتعلم الكثير عن الصهيونية. فعندما كان يافعاً في بداية القرن العشرين، غالباً ما كانت أمه تصطحبه لتمضية الشتاء في مزرعة يملكها آل الحسيني في أريحا؛ وهم أصدقاء مقربون إلى والدته. وهناك التقى رياض بموسى شرتوك، الذي أصبح موشي شاريت لاحقاً، وتولّى منصب وزير خارجية إسرائيل من سنة 1948 إلى سنة 1956، ورئيس الوزراء من سنة 1954 إلى سنة 1955 (...). أدرك رياض التهديد الصهيوني لفلسطين في سني مراهقته. ونبّه والده، رضا الصلح، أمام البرلمان العثماني إلى الخطر الذي يشكّله الاستيطان اليهودي المتسارع الذي يتميّز بحسن التمويل والتنظيم. لذا منذ أن أعلن عن النظام الجديد للانتدابات ما بعد الحرب، اهتمّ رياض بمعرفة ما يريد الصهاينة من فلسطين، وما مدى الدعم الذي تنوي بريطانيا تقديمه إليهم. هذه هي التساؤلات التي كانت تدور في خلد رياض عندما سافر، وهو في الثامنة والعشرين من العمر، إلى لندن في تشرين الثاني/نوفمبر 1921، لعرض خدماته ومعرفته بالشؤون الدولية على موسى كاظم الحسيني، رئيس بلدية القدس سابقاً، الذي كان يجري محادثات مع الزعيم الصهيوني الدكتور حاييم وايزمان تحت رعاية بريطانيا. عقدت المحادثات على خلفية توتّر شديد، إذ تكرّرت الاشتباكات بين العرب واليهود في القدس مع اقتراب ذكرى وعد بلفور في ذلك الشهر (...). عُقد اجتماع في 7 تشرين الثاني، حضره من الجانب الصهيوني إلى جانب وايزمان، جيمس دو روتشيلد وإيتامار بن آفي Itamar Ben-Avi، محرر صحيفة «دوار هايوم» والناشط في أوساط المستوطنين اليهود في فلسطين (الياشوف). وقد أعدّ بن آفي وثيقة بعنوان «اتفاق مقترح بين العرب واليهود» كأساس للمباحثات، وهي تقوم على مقايضة مقترحة: يقدم الصهاينة للعرب «دعماً مادياً ومعنوياً» لتحقيق «طموحاتهم القومية المشروعة»، مقابل أن يقدّموا الدعم لليهود في إنشاء «وطن قومي» في فلسطين. كان هدف رياض الرئيس من قبول الاجتماع بوايزمان معرفة إمكانية تعبئة النفوذ السياسي للصهاينة للحؤول دون أن تقرّ عصبة الأمم الانتداب على سوريا ولبنان. فقد كان يريد، على غرار القوميين العرب الآخرين في تلك الفترة، إلغاء الانتدابات وإحلال دولة عربية اتحادية محلها. فإذا وافق الصهاينة على مساعدة العرب في تأمين هذا الهدف الحيوي، فإنه مستعد للموافقة على هجرة يهودية محدودة إلى فلسطين. لكن المحادثات باءت بالفشل. أصرّ رياض على أن تضم وثيقة بن آفي فقرة تستبعد إنشاء دولة يهودية في المستقبل. ولم يكن من المستغرب أن يصرّ وايزمان، الذي كرّس كل طاقاته السياسية لتحقيق تلك الغاية، على أن من الأفضل ترك الأمور وشأنها في هذه القضية بالتحديد. وقال مراوغاً إنه لا يستطيع تقديم التزام عن الأجيال القادمة للمهاجرين اليهود. فردّ رياض معبّراً عن اعتقاده بأن هدف وايزمان النهائي هو إقامة دولة يهودية (...). استؤنفت اتصالات رياض بالصهاينة في القاهرة في آذار/مارس 1922، ثم بعد ذلك بشهر، حين انضم إلى الشيخ محمد رشيد رضا وكامل القصاب وإميل خوري، الذين وصفوا أنفسهم بأنهم اللجنة التنفيذية لحزب الاتحاد السوري، لعقد جولة أخرى من المحادثات. لكن هذه المحادثات وصلت في حزيران إلى طريق مسدود أيضاً، لأن الصهاينة خافوا من تنفير رعاتهم البريطانيين الذين سعوا جاهدين للحصول على صداقتهم. ولم يكن لديهم أي نية لإلغاء انتدابات عصبة الأمم، كما طلب العرب، لأنهم في حاجة إلى حماية الانتداب في فلسطين لمصلحة مشروعهم الخاص (...). لم يقدّم رياض طوال سنوات ما بين الحربين أي تنازل لمسايرة اللعبة السياسية الفرنسية في سوريا ولبنان. غير أنه كان مستعداً دائماً لعقد محادثات مع المسؤولين والسياسيين الفرنسيين، وحريصاً على التأثير في الرأي العام الفرنسي بكل الوسائل الممكنة. لكن موقف الحاج أمين كان مختلفاً بعض الشيء. فقد عيّنه البريطانيون في منصب المفتي الأكبر واشترطوا صراحة أن يستخدم نفوذه للحفاظ على النظام العام في القدس. ومع أنه عرّف نفسه كقومي عربي ووطني فلسطيني، فقد وافق على الدخول في نوع من التعاون مع سلطة الانتداب (...). في أوائل سنة 1924، استأجر رياض غرفة في نزل عائلي في جبل الكرمل في حيفا، بانتظار صدور عفو فرنسي يتيح له العودة إلى سوريا ولبنان. فزاره موسى شرتوك، بعدما عرف بوجوده من خلال عائلة الحسيني، وأقنعه بمرافقته إلى القدس للقاء الدكتور وايزمان ثانية. وفي الطريق إلى هناك، لفت شرتوك انتباه رياض إلى المستوطنات اليهودية التي تنمو بسرعة، وتبنيها في السهول فرق ناشطة من الرجال والنساء والأطفال. أقنعت الرحلة إلى القدس، والاجتماع مع وايزمان، رياض بتصميم اليهود الأوروبيين الجامح على السيطرة على فلسطين العربية، وعجز العرب المأسوي عن التصدي لهذا التهديد. وأدرك الآن أن الطموحات الصهيونية أكبر بكثير مما كان يتصوّر: إنهم يريدون فلسطين بأكملها، وضفتي نهر الأردن، أو قدر ما يستطيعون الاستيلاء عليه على الأقل (...). وكان على رياض، طوال تلك السنوات، أن يعيش في صراع بين إعلان معارضته التامة لفكرة إقامة «وطن قومي لليهود»، كما تملي عليه فطرته، أو اعتماد نهج أكثر حذراً وتعقلاً من الناحية السياسية، يقوم على حقائق القوة. كان لديه ما يكفي من البراغماتية ليدرك أن المشروع الصهيوني المدعوم من البريطانيين أصبح في أواسط العشرينات عميق الجذور بحيث من الصعب على العرب، وهم على ما هم عليه من انقسام، إن لم يكن من المستحيل، اقتلاعه من جذوره (...). أصبحت استراتيجية رياض بعد ذلك محاولة حماية مصالح العرب الأساسية من طريق تقييد طموحات الصهاينة في إطار عربي. وهكذا، فإن النضال ضد تنامي الوجود الصهيوني، بالإضافة إلى الأحداث المثيرة مثل الثورة السورية وثورة عبد الكريم في المغرب ضد فرنسا وإسبانيا، دفعته هو والحاج أمين للتظاهر ضد بريطانيا وفرنسا، والدعوة إلى المقاومة وتنظيم تحرّكات التضامن الدولي، ما أكسبهما شهرة كحاملين لراية القضية العربية (...). ظل رياض مقتنعاً طوال العشرينات والثلاثينات بأن الحوار أفضل وسيلة للتوصل إلى معادلة للتعايش بين العرب والصهاينة. لكن سرعان ما اتضح له بجلاء أن ليس للصهاينة مصلحة في التوصل إلى تسوية مع العرب، على رغم خطابهم الذي يبدي استعداداً ظاهرياً لذلك. وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في سنة 1936- وقد قمعها البريطانيون بوحشية بالغة - كان الوضع قد تدهور إلى حدٍّ يتعذّر إصلاحه. ولم تعد الطموحات الصهيونية الواسعة خافية على أحد. غير أن رياض الصلح أدرك آسفاً، من طريق هذه الاتصالات العقيمة، مقدار تمكّن الصهاينة من استقطاب الرأي العام الأوروبي والأميركي لمصلحتهم، ومقدار ضعف العرب في إيصال قضيتهم إلى العالم. ومع ذلك، ظل يأمل بإمكانية إصلاح هذا الاختلال في التوازن. وتعلم الكثير عن ممارسة التأثير السياسي من مراقبة الأساليب الصهيونية. فقد حصل حاييم وايزمان على الدعم البريطاني، الذي تكلّل بوعد بلفور في سنة 1917، بتقديم حجّته في لندن لا في فلسطين، وعلى أعلى مستوى. ولم يغب هذا الدرس عن انتباه رياض البتة. ومن القضايا التي شغلت رياض الصلح على وجه الخصوص الطموح الصهيوني إلى إنشاء مستعمرات يهودية خارج حدود فلسطين في سوريا وجنوب لبنان. فطالما كان وايزمان يسعد بفكرة «فلسطين الكبرى»، وحاول مراراً إقناع الفرنسيين بالسماح بإنشاء مستوطنات يهودية في الجولان وحوران، بالإضافة إلى لبنان وصولاً إلى نهر الليطاني. وقد سعى بعض اليهود السوريين الأثرياء المنتمين إلى الصهيونية إلى شراء الأراضي في تلك المناطق، وطالبت الصحافة الصهيونية بضمّها (...). السياسات الحزبية انهمك رياض الصلح كثيراً في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات في تسوية النزاعات بين القادة الفلسطينيين المتخاصمين. ففي ذلك الوقت - كما هي الحال اليوم - أدت آفة الصراع الحزبي الداخلي إلى إضعاف الحركة الفلسطينية الوطنية. فقد ثارت منذ سنوات خصومة سياسية بين العائلتين الفلسطينيتين البارزتين، الحسيني والنشاشيبي، على وجه الخصوص. فعملت عائلة النشاشيبي ما في وسعها لمنع عقد المؤتمر الإسلامي في سنة 1931، لأنها تدرك جيداً أنه سيعطي خصمها، الحاج أمين الحسيني، تأييداً كبيراً. بل إن مكانة المفتي المتصاعدة تحقّقت على حسابهم. وفي المجتمع الفلسطيني، استندت مكانة عائلة الحسيني إلى حدٍّ كبير إلى تحدرّها من سلالة النبي (صلى الله عليه وسلم)، في حين أن عائلة النشاشيبي، ذات الأصل الأقل عراقة، أصبحت ثرية بفضل الالتزام الضريبي في آخر الحكم العثماني. ومن الناحية السياسية، كانت عائلة النشاشيبي أكثر اعتدالاً من عائلة الحسيني، وتعاونت مع السلطات البريطانية كما أيّدت فكرة إنشاء مملكة هاشمية تدعمها بريطانيا على فلسطين وشرق الأردن. وشكّل ذلك برنامج حزبها السياسي، حزب الدفاع الوطني، الذي عارض المفتي بشدّة. كان ثمة صراع آخر بين الحاج أمين ومجموعة من الناشطين الفلسطينيين بقيادة عوني عبد الهادي، أحد معاوني الأمير فيصل في دمشق، حيث التقى به رياض للمرة الأولى. استاء عبد الهادي من المنافسة الحادّة بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي، فأسس حزباً سياسياً، أسماه حزب الاستقلال، وشنّ حملة فاعلة على هجرة اليهود واستيطانهم ودعا إلى عصيان مدني سلمي على طريقة غاندي. وأعلن أن فلسطين دولة عربية محورية وجزء لا يتجزأ من سوريا. رأى الفرنسيون المرتابون دائماً أن حزب الاستقلال صنيعة الاستخبارات البريطانية. ولإقصاء الحزب من الساحة السياسية الفلسطينية، شكل آل الحسيني الحزب العربي الفلسطيني في مؤتمر عقد في القدس في 26 و27 آذار 1935، وشكّلت مناهضة الصهيونية المبدأ الرئيس في برنامجه السياسي. تلك بعض الأحزاب التي حاول رياض الصلح أن يجمع بينها. فزار فلسطين مرات عدة في أوائل الثلاثينات في محاولة التوفيق بينها ولكن دون نجاح دائم. في الوقت نفسه تقريباً، انهمك رياض في التوسط بين القادة الوطنيين السوريين المتنازعين أيضاً. فعندما عاد إلى بيروت في سنة 1935 بعد فترة الإقامة الجبرية في القامشلي، دُعي لتسوية خلاف في طرابلس بين مناصري عبد الحميد كرامي ومناصري الدكتور عبد اللطيف البيسار، أدى إلى حدوث اشتباكات بين الفئتين (...). فقد اعتدى أربعة رجال من آل البيسار بالضرب على عبد الحميد حين كان عائداً إلى منزله بعد اجتماعه بفخري البارودي الذي كان في زيارة لطرابلس في ذلك الوقت. قاد رياض وفداً للتوسّط بين العائلتين. وكما كتب إلى صديقيه نبيه وعادل العظمة في 27 تموز/يوليو 1935، «عدت للتوّ من طرابلس حيث أمضيت ليلتين لم أذق فيهما طعم النوم وأنا أحاول حل المصاعب الكبرى للمهمة. وبعد عودتي الآن، أعتقد أن باستطاعتي التوصل إلى حل خلال أسبوع». ولعل أقل ما يقال في هذه الخلافات المستمرّة في فلسطين وسوريا إنها لم تعد بأي فائدة على القضية العربية بأي شكل من الأشكال. * غداً حلقة ثانية