جاء اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب في 2009، ليحرّك رغبة الباحثين في مزيد من استكشاف هذه المدينة. خمسة آلاف عام وربما يزيد، هي عمر العاصمة اللبنانية التي دمرتها حروب وغزوات واقتتال وعاودت العمران. لكن لبيروت ذاكرة حية، خصوصاً عبر تلك البطاقات البريدية التي تؤرخ للمدينة في نهاية القرن ال 19 والنصف الأول من القرن العشرين. وتستوقفك في هذا المجال جهود اثنين من أبناء لبنان، الأول فؤاد دباس بمجموعته من البطاقات البريدية، والثاني خالد تدمري بمجموعته الفريدة من الصور القديمة للمدينة. حاول فؤاد دباس أن يقدم بيروت بصورة مختلفة من خلال مجموعته من البطاقات البريدية. كان مرفأ بيروت متواضعاً بسيطاً كما تكشفه الصور الملتقطة، غير أن تطوراً كبيراً حدث عقب توسيعه على يد الشركة الإمبراطورية العثمانية. فبات مرفأ حديثاً امتد في البحر بفضل إنشاء رصيف بحري طوله 800 متر، شبة مواز للشاطئ، ما يسمح ببلوغ أعماق كبيرة. وفي العام 1925 أصبحت الشركة المشرفة عليه فرنسية، وأضيف حوض جديد وتم توسيعه أيضاً في العام 1934. وبني أول فندق عند المرفأ في العام 1849، على يد الفندقي الشهير باتيستا، وقبالة الفندق، على الأرض المستحدثة من جراء ردم المرفأ القديم، افتتحت محال أوروزدي باك الكبيرة فرعها في بيروت في أيلول (سبتمبر) 1900، لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لوصول السلطان عبدالمجيد الثاني إلى الحكم، فكان أجمل فرع لهذه المحلات في المشرق، وأولها المجهز بمصعد. وبعد أن دمره حريق مفتعل في 1937 شيدت في مكانه بناية فتال. حظيت بيروت بتصميمات للمعماري الفرنسي الشهير غوستاف إيفيل عام 1893، كان منها رصيف بحري ومحطة استقبال الركاب في المرفأ ومستودعات الجمارك. وكان هذا جزءاً من محاولات تحديث بيروت التي كان سكانها يزيدون على ستة آلاف في القرن 19 الميلادي. وشهدت بيروت عمليات هدم متتالية سواء لشق شوارع واسعة أو لخطوط سير ال «تراموي»، غير أن أكثر ما يثير الانتباه في بيروت هو البوسطة العثمانية (البريد). كانت دوائر البوسطة العثمانية موزعة في أنحاء المدينة. لكن أهمها كان الدائرة المركزية التي دشّنت في 24 آب (أغسطس) 1908، ويقع المبنى قبالة خان أنطون بك الذي كان يضم دوائر البوسطات الأجنبية: إنكليزية، فرنسية، روسية، ألمانية، ونمسوية. وبالفعل، كانت الدول الأوروبية العظمى تتمتع بامتياز نقل البريد. وكان التجار المحليون والأجانب يفضلونها على البوسطة العثمانية التي كانت تعتبر بطيئة وغير أمينة. وبقي الوضع على حاله، على رغم المحاولات الفاشلة التي قامت بها البوسطة العثمانية بإجراء خفوضات كبيرة على الرسوم البريدية وزيادة فروعها في المدينة وحتى فتح دائرة مركزية تجاه منافسيها. لذا، قرر العثمانيون، وبعد أن أعيتهم الحيلة، إلغاء امتيازات البوسطات الأجنبية في المشرق قبيل الحرب العالمية الأولى. وإذا أردنا أن نلقي نظرة على بيروت، فما علينا إلا العودة بالذاكرة لحي الزيتونة، فإنه مع حلول العام 1830، بدأت المدينة تخرج من أسوارها، ما جعل الفنادق تنتقل غرباً عند واجهة البحر. وبالفعل، كان من الأسهل على المسافرين الوصول بالزورق إلى فندقهم، بعد الانتهاء من الإجراءات الجمركية والصحية، إذ كانوا بذلك يتفادون المرور داخل المدينة القديمة وأزقتها الضيقة المحظورة على عربات الخيل. لا سيما أن شرق المدينة القديمة لم يكن صحياً (دباغات، مسلخ) ويصعب الوصول إليه بحراً بسبب صخور حي المدور المرتفعة. وفي أي حال، كان الأجانب المقيمون في بيروت اختاروا السكن غرب المدينة ومنهم القناصل، لذا سمي هذا الحي بحي القناصل. ابتداءً من رأس الشامية حيث تقوم مجموعة من المقاهي على ركائز خشبية منها مقاهي البحري وقصر البحر والبحرين. كما كانت هناك مقبرة السنتية الإسلامية التي أعطت اسمها للمحلة. ويرجع اسمها غالباً إلى شجر السنط الذي كان يكثر وجوده هناك. وقد بنيت على جدارها في الثمانينات محال تجارية، عرفت بالمخازن الجديدة. غرب رأس الزيتونة، يقع خليج صغير، هو ميناء الحصن. وكانت سفن النزهة الخاصة لرواد فندق سان جورج ترسو فيه، وكذلك مراكب بعض الصيادين. شهد هذا الخليج حوادث عدة، آخرها نزول القوات الفرنسية بقيادة الجنرال بوفور دوبول في 16 آب (أغسطس) 1860، فعرف بمرفأ الفرنسيين. ويبدو أن المدينة الرومانية كانت تمتد حتى هذه النقطة. وبالتوجه غرباً، تمر الطريق الساحلية بمحاذاة الكلية السورية الإنجيلية. ويعود إلى الوالي إسماعيل كامل بك فضل المبادرة إلى إصلاح الطريق الساحلي من جسر المرية إلى ميناء شوران في 1892. كما تظهر على الطرف الشمالي الغربي للمدينة المنارة التي بناها مهندسون فرنسيون ما بين 1862 و1863 والتي كانت تشرف من علو ثمانية وثلاثين متراً، على ميناء شوران الذي أصبح لاحقاً الحمام العسكري وعلى ملعب نادي النهضة الرياضية. وتطوف بنا مجموعة بطاقات فؤاد دباس البريدية في عدد من الأحياء اللبنانية العريقة ومنها: حي الصنائع، الذي لا يزال قصر فرعون يرتفع على أعالي التلة في شارع الجيش، والذي بناه روفائيل فرعون عام 1892 ومن ثم، جمع فيه حفيده هنري إحدى أجمل المجموعات الخاصة من الأثريات والتحف الإسلامية والصينية، وكذلك مجموعة سجاد شرقي لا تقدر بثمن. أما حي زقاق البلاط، فيوجد فيه أول طريق عُبد بالبلاط البركاني الأسود في بيروت. وكانت المطبعة الأميركية أول إنجاز حققه المرسلون البروتستانتيون. تأسست عام 1822 في مالطا، وانتقلت في 1834 إلى بيروت، جنوب غربي باب يعقوب. وفي السنة ذاتها بنت السيدة سارة سميث في المحيط نفسه، أول مدرسة للبنات في الإمبراطورية العثمانية. وغالباً ما يعزو المؤرخون إلى الأمير فخر الدين تشجير حرج بيروت بالصنوبر، كان الحرج متنزهاً لسكان المزرعة والبسطة والمصيطبة. وبني فيه حسن أفندي الحلبوني، أحد وجهاء بيروت من أصل دمشقي، جامع الحرج للقاطنين في تلك المنطقة، والذي أصبح لاحقاً ملكاً لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. وينسب حي الأشرفية إلى الملك الأشرف خليل بن الملك منصور قلاوون الذي طرد الصليبيين من مدن المشرق الساحلية والذي بنى، كما يقال قصراً هناك. وتوثق البطاقات البريدية لبيروت التغيرات التي طرأت على الشاطئ الشرقي والتي غيرت معالمه، عندما نقاربه بصور ورسوم القرن الماضي. انطلاقاً من البرج المسلح، وهو حصن كان يشرف على المرفأ القديم، وصولاً إلى رأس الخضر، لم يكن هنالك سوى شواطئ صخرية عالية جداً. ولعل من أهم البطاقات التي تنطبع في الذاكرة بطاقة بريدية تذكارية عن زيارة غليوم الثاني قيصر ألمانيا، وثورة عام 1908 واحتشاد الجماهير في المحطة البحرية لاستقبال العائدين من المنفى، كذلك بطاقات تجسد الهجوم البحري الإيطالي الذي أعقب النزاع الإيطالي العثماني في طرابلس الغرب. ناهيك عن الحرب الكبرى ودخول جيوش الحلفاء، فضلاً عن المهن البيروتية.