ثورةٌ مصرية جديدة، يصنعها صخبُ اللونِ والقلق من الزمن القادم. ليست ثورةً على الماضي والحاضر، مثل كل ثورات التاريخ، ومثلما كانت ثورة يناير المصرية الشريفة، بل هي، على النقيض من ذلك، ربما تكون ثورة على المستقبل الوشيك، الذي قد تحمله الأيامُ القادمةُ لمصرَ، كأحد تجلّيات ثورة 25 يناير. هكذا قرأتُ لوحات الفنانة التشكيلية المصرية نازلي مدكور في معرضها الجديد «وأتى الربيعُ»، في قاعة «أفق» - متحف محمود خليل في الجيزة. تأتي زهورُ المصرية نازلي مدكور كثورة فنية باللون على التهديد الذي بات يتوعّد وحدة نسيج مصر بعد الثورة. تلك الثورة التي أطاحت نظامًا فاشيًّا جثم على صدرها ثلاثين عامًا، ليأتي لها، كما كان مفترضًا، بالحرية والهواء النقي. على أن نُذُرًا معتمة في الأفق شرعت تُنذر أخيرًا بدخول مصرَ نفق دولة تيوقراطية قد تقوّض مكتسباتها المدنية الحديثة التي رسّخها محمد علي منذ قرنين. نُذرٌ مخيفة ربما يكون من تجلياتها إقصاءُ المرأة عن المجتمع، وعودتها إلى «الحرملك» الذي هجرته منذ قرون، مع ضياع مكتسباتها الحقوقية التي تقرّها لها مواثيقُ حقوق الإنسان ودساتيرُ الشرائع السماوية الرفيعة، على خلاف ما يريد بعض الظلاميين الذين يرون في المرأة كيانًا تابعًا غير ذي أهلية ولا عقل! لذلك تأتي لوحات نازلي مدكور الأخيرة «وأتى الربيع» لتقدم رسالتين شديدتيْ اللهجة، رهيفتيْ الأسلوب، وفق قراءتي الخاصة للمعرض. الرسالة الأولى مباشرةٌ تخصُّ الثورة المجيدة التي خرجت بالمصريين من نفق الاستبداد الشمولي، نحو براح الحرية وامتلاك القرار. هنا «أتى الربيع» بزهوره المشرقة التي تحمل على أوراقها «حلمَ» المصريين بغد أجمل أكثر حريةً وتحضّرًا. هذه الرسالةَ نقدمها لوحات زاهية الألوان، تذوبُ فيها الزهورُ والنباتات على هيئة المادة الهيولية الأولى لتقفَ على الخط المخاتل بين التصريح والتلميح. تمامًا مثلما يقف «الحلم» على الخيط الغائم المرتبك بين الواقع والخيال. زهورٌ توشك أن تُزهر، ولكن ازدهارها لم يكتمل بعد. أوراقُ شجر خجولٌ تطلُّ برأسها على استحياء يليق ببراعم وليدة في طور التفتق والتشكيل. ظلال زهور، وليس من زهور ناضجة واضحة المعالم. ذاك هو حلم المصريين الذي لم تتشكل رؤاه الواضحة بعد. تلك هي اللحظة التاريخية الفريدة الغائمة التي تحياها مصرُ الآن. ذلك هو الوعد بغد تشرق زهوره لو كتب اللهُ للزهور أن تشرق. تلك رسالة المعرض الأولى. أما الرسالة التالية فتحمل من القلق والترقّب أكثر مما تحمل من الوعد والحلم والأمل. لذلك يبدأ اللونُ الأسود في الظهور مع ظلال الأزرق الذي يشي بأحزان «البلوز» وأغانيهم الموجعة. في هذه اللوحات تكاد تختفي الألوانُ الزاهية من لوحات المعرض، وتحلُّ محلَّها الألوانُ الداكنة، وتكاد تختفي الذوبانية التي تُماهي حدود الزهور ولونها في هيولي سائل بصري مموه في لوحات الرسالة الأولى، لتحلَّ محلَّها الحدودُ الحاسمةُ الفاصلة بين الألوان، بما يشي بالقلق من تقسيم مصر بخطوط عنصرية جغرافية واجتماعية على أسس الدين والنوع والفكر. تستقرُّ الظلالُ الداكنة المعتمة في خلفيات المشهد لتقطعها، بين لوحة وأخرى، بقعةٌ صغيرة مُشرقة من الأصفر الصاخب أو الأحمر المشعّ أو الأبيض الناصع، مثلما يبرق الأملُ في قلب اليأس أحيانًا، ومثلما يقطعُ شعاعُ ضوء نحيل، فضاءً شاسعًا من العتمة. وربما تجتمع الرسالتان معًا، في رسالة موحدة تقول: المجتمعُ لا يكون مجتمعًا إن أُقصيَتِ المرأةُ، والزمانُ لا يكون حيًّا، إن لم يأت الربيع. لا يبتعد هذا المعرض عن تجربة نازلي مدكور الممتدة من الثمانينات الماضية عبر أربعين معرضًا مصريًّا وعالميًّا. وفي وسعنا أن نطلق على مجمل تجربتها تيمة التنوع عبر الوحدة Variety within Unity. انطلقت تجربة مدكور الأولى مع نهاية الثمانينات والتسعينات عبر معرض «نداء الأرض»، من ركام طمي النيل العظيم ومائه، عبر حواره الأبدي مع الوادي الخصيب وصحارى مصر وكثبانها الرملية وتلالها والبيوت الطينية التي شيّدها المصريون بأكفّهم السمراء التي تحفُّ من جوف الأرض طميَها لتبني فوق تربتِها. لم تكتف ابنةُ مصر نازلي برسم تيمات الأرض، بل مدّت كفها لتنهل من الكنوز البكر في عمق أرض طيبة وتشكّل لوحاتها بتلك المواد الخام من رمال وعجائن طميية وورقية وخيش وحبال ولحاء نخيل وألياف بردي وجص وأكاسيد تسكن باطن الأرض، لترسم بكل تلك الفرائد البيئية الخام على لوحات التوال. كأنما استلهمت مقولة حسن فتحي، المعماري الكبير: «انظر تحتك وابنِ»، فتقول نازلي مدكور، التشكيلية: «انظرْ تحتك وارسم.» وجاءت نهاية التسعينات لتحتلَّ الوجوه المصرية «البورتريه» بؤرة التجربة التشكيلية لدى مدكور. وهنا تكتمل دائرة الحياة التي تجمع بين الأرض/ الأم، والإنسان/ الابن، ومحور الكون. ثم يأتي معرضها الراهن «وأتى الربيع» ليكون درّة العقد الذي جمع محوري الحياة: الأرض، الإنسان، مع زهور الربيع حين يتحور الطين الطيب ليُخرج الحياة على هيئة زهور تشرق مع الربيع الذي تزامن مع شروق ثورتنا المصرية. يضم المعرض خمسين لوحة تجمعها تيمةُ الزهور الذائبة في ظلالها، نُفّذت بخامات مختلفة وملامس متباينة وألوان عاصفة راقصة حينًا، وكابية حزينة حينًا آخر. وكانت نازلي مدكور ألفت كتابًا عنوانه «المرأة المصرية والإبداع الفني» صدر بالعربية والإنكليزية، ونفّذت رسومًا تشكيلية تجادلت مع كتاب نجيب محفوظ «ليالي ألف ليلة» الصادر عام 2005 عن دار Limited Edition Club في نيويورك.