لم يكن قرار السفر إلى بريطانيا قبل خمس سنوات بدافع السياحة أو الاستجمام بمقدار ما كان الهدف تحقيق حلم شاب في الحصول على شهادة جامعية والعودة بها إلى ارض الوطن. غياب دام خمس سنوات عشتها في غربة عن الوطن والأهل والأصدقاء ...لكن ذكرياتها في حلوها ومرها كانت حاضرة إلى أن شاءت الظروف التي سمحت لي بزيارة الوطن. بعد الانتهاء من إجراءات السفر بدأت الرحلة. قررت العودة مع بوادر الانفراج السياسي التي برزت في القطاع ...وسألت نفسي هل سأعود عبر معبر رفح الذي عانيت ويعاني منه آلاف الفلسطينيين؟ الزيارة حتمية ولا مجال للتراجع ...مهما كانت الصعوبات والمشقات..الحواجز كافة أزيلت باستثناء حواجز عبور المعبر...الشوق والاشتياق ازداد مع اقتراب يوم السفر حتى لحظة المغادرة... مشاعر فرح وقلق في آن... لحظة معانقة الأهل والوطن اقتربت. لحظة العودة لم تكن كلحظة مغادرتي قطاع غزة قبل خمس سنوات...حينها كنت مغادراً إلى عالم مجهول أما اليوم فأنا عائد إلى ارض الوطن حيث ولدت وترعرعت وضحكت وبكيت. حيث تشاطرت مع أبنائه الحلو والمر ضحكنا سوياً وبكينا. هنا بدأت قصة الشاب المهاجر الذي عاد إلى بلاده. للوهلة الأولى شعرت وكأن زلزالاً ضرب القطاع وغير معالمه ... أدركت بسرعة أنها الحرب الإسرائيلية عام ألفين وتسعة. لكن ما الذي احدث هذا التغيير في مجتمع برمته وخلال خمس سنوات. عادات جديدة وتقاليد مختلفة ثقافة دخيلة وعلاقات تحكمها المصالح. لحظه عبوري المعبر كان إخوتي الثلاثة في انتظاري عند البوابة. عناق وشوق وحنين. كانت فرحتي كبيرة وكبيرة جداً. كبر الأشقاء وأدركت كم أن الأيام تغير الإنسان، وشعرت أنني في بلد غريب نوعاً ما، والسؤال الذي راودني هل تأثرت بالغرب وهل تغيرت، أم هم تغيروا؟ سؤال بدأت أبحث عن إجابة له طيلة فترة زيارتي. التغيير الذي لمسته منذ بدء الرحلة عايشته كل فترة الإجازة التي لم تعد للاستجمام والاستمتاع بشواطئ غزه التي لا تزال رمالها تدغدغ رجلي وأمواجها تطفئ شوق الغربة كلما شعرت بالحنين إلى الوطن. أنا اليوم غريب بين أهله وأصدقائه. همومهم مختلفة مشاكلهم مختلفة وحتى اهتماماتهم. لست أنا من شعر بالغربة. بل كل من حولي أيضاً. دار الحديث فبت أنا السائل. أحببت العودة إلى تفاصيل الحرب على غزة. رغبت بسماع حكايات الناس خلال الحرب. قصص عن صمودهم ومقاومتهم، لكن أحداً لم يشأ الخوض في تفاصيل الحرب ربما لأنهم أداروا ظهورهم لها وهم أبناء اليوم فلا حاجة إلى العودة إلى ذكريات مؤلمة. وطويت الصفحة طيلة فترة إقامتي في القطاع والتي استمرت ثلاثة أسابيع. في المقابل يبدو أن الاقتتال الداخلي، وأعني هنا بين«فتح» و«حماس»، كان له الأثر الأكبر في نفوس الأهالي ليس فقط لأنه اقتتال بين أبناء الوطن الواحد، وبين أبناء القطاع الواحد وبين أبناء العائلة الواحدة، بل لأنهم لايزالون يعيشون نتائج وآثار تلك الحرب. بعد أيام قليلة من إقامتي إلى جانب الأسرة ، بدأت زيارتي التفقدية لشوارع غزه. وقفت على آثار الحروب لكن معالم غزة تغيرت ليس بفعل الحرب فقط. مجتمع جديد بكل ما للكلمة من معنى. حتى المقاهي والمطاعم التي كنا نرتادها أجواؤها اختلفت، ناهيك عن الأسعار الباهظة، فللحظة يخيل إليك وكأنك جالس على جادة في أوروبا ...أما التفاوت الأكبر فبدا واضحاً في أنواع السيارات التي تمر بالقرب منك. سيارات فارهة مقابل سيارات أكلها الاهتراء. جولتي قي شوارع غزة لم تقف عند هذا الحد. فلكل شخص التقيته قصة ورواية لكن الحديث اليومي أو ما بات يعرف بالخبز اليومي هو أزمة الغاز والكهرباء والنقص في مواد البناء والمواد التموينية. وهنا سألت احدهم إذا كان هناك نقص بمواد البناء فمن اين جاء هذا العدد الكبير من المساجد. أنتم تبنون مساجد أو منازل. والأغرب انه عند السؤال عن كيفية دخول السيارات الفخمة إلى القطاع كانت الإجابة من الأنفاق أما أصحابها فهم معروفون بالاسم . وعن مصدر الأموال فالإجابات غير واضحة، والبعض يفضل عدم الإجابة حتى لا ينعت بالعمالة والخيانة وإفشاء الأسرار ... وباختصار انهم المستفيدون من الحصار. رغم الصورة القاتمة التي تكونت في ذهني عن أوضاع غزة إلا أن البلاد لا تخلو من مجموعات شبابية تحاول عبر نشاطاتها المتواضعة إسماع صوتها. منها مجموعة تطلق على نفسها اسم شباب الخامس عشر من آذار. تعمل هذه المجموعة مع مختلف الأطراف الفلسطينية لإنهاء الانقسام في الدرجة الأولى، وللعدالة الاجتماعية وحرية الرأي والتعبير وإنهاء حملات الترهيب والتهديد والاعتقال والملاحقه من قبل الأجهزة الأمنية. لكن الآمال والأحلام سرعان ما تتكسر على صخرة الواقع. شباب في نهاية المطاف محاصر، نافذته الوحيدة على العالم الخارجي هي الإنترنت. شباب يأمل بالهجرة لا يهم إلى اين. وفي هذا الشأن كانت هناك محاولات عدة فاشلة للهروب إلى أوروبا عن طريق روسيا أو أوكرانيا أو حتى البحر وفق روايات البعض. لكن الوسيلة الأسهل للهروب كانت اللجوء إلى المخدرات. حبوب «الترامال» متداولة بكثافة بين أبناء القطاع . أما مفعولها فحدث ولا حرج كما يقول الشبان فهي تنسيهم الهموم وتبعدهم عن الواقع المرير، والهم الوحيد هو الحصول على الأقراص. مع اقتراب موعد عودتي إلى لندن كان لا بد من مراجعة دائرة الجوازات في الداخلية لإتمام الإجراءات اللازمة للسماح لي بالمغادرة عبر معبر رفح. لدى دخولي استقبلني أشخاص ملتحون بابتسامة عريضة وبدؤوا بطرح مجموعة من الأسئلة من أين أتيت و إلى أين ومتى سافرت إلى المملكة المتحدة؟ حتى الإجراءات الروتينية طرأ عليها تغيير، فدائرة الجوازات لا تصدر جوازات جديدة وإنما تغذيها وفق المصطلح الجديد الذي ادخل على قطاع غزة منذ سيطرة «حماس». أما السؤال الذي ادهشني فكان عن اسم أقرب مسجد لمنزلي! وانتهت القصة بعد الشرح المفصل عن مكان إقامة عائلتي حيث تم التعرف على اسم المسجد وانتهت معاملتي بنجاح، وفوقها نصيحة. أداء صلاة الجمعة على الأقل في المسجد.