يموت الشاعر كمداً، يموت احباطاً او انتحاراً، تقتله نرجسيته، او تودي به مغامرة خارج اسوار القصيدة. لكن الشاعر في بغداد قد يموت لأن جهاز «الانعاش» لا يعمل في مستشفى الفقراء. في مجلس عزاء الشاعر في اتحاد الادباء، في المدينة الشاحبة، المليونية اليتيمة، التي بدّل الآباء اسماءها مع انقلاب المواسم، وظلت ابنة شرعية للحرمان، يجلس صف الشعراء، يتداولون الحكاية: «محمد درويش قتله نبل الشاعر قبل ان يقتله تشمع الكبد وإهمال الحكومة». على فراش المرض تحولت قضية درويش الى اختبار ولاء، ولاء للشعر والوطن، وولاء آخر لمن يمسكون زمام السلطة. اقتطع شعراء بغداد بعض شحيح مالهم للتكفل بعلاج درويش خارج بغداد وليس خارج العراق. «اقارب المسؤولين وليس الشعراء من تتكفل الدولة بعلاجهم في الخارج»، يردد مجانين بغداد. مال الشعراء شحيح، ومرض الشاعر مكلف. طوال شهور ظلوا يناشدون السلطة برموزها وشخصياتها، مدّعيها وأفّاقيها انقاذ درويش، لكن احداً لم يكن يعبأ بمأساة شاعر يصارع الموت صراعهم على غنائم الحياة. الجسد الاسمر النحيل الى بغداد حيث كان وهو الكردي يردد انها منبع شريانه، ليواجه النهاية على يد جهاز انعاش معطل في مستشفى لا يقترب منه الاغنياء. كان درويش اختصر وحشة النهاية يوماً حين كتب: «ليل ونباح. ليل وإطلاق نار في فضاء حزين وذبالة ضوء. من يمسك بالحلم السائر الى الوحشة؟ امرأة في البعيد تفتح مغاليقها بصمت. في الليل تغفو تحلم بالمستحيل. ليل ومرآة غافية على الجدار. يطل منها شبح مثل رجل عار. الباب مغلق والقادم غريب». عن رحيل الشاعر خلّف دهشة صادمة في الوسط الثقافي العراقي، كتب حسام السراي: «علينا أن ننعى ذواتنا، قبل نعي محمد درويش. انّها محنة العراق الذي تراجع فيه وعي المجتمع، حيث الحشود المشغولة بقوتها اليوميّ في مشغل الثقافة الاستهلاكية». وكتب شاكر المياح: «رحل محمد درويش، لكننا نحن اصدقاءه وزملاءه لم نرحل بعد، ما زلنا على قيد العراق بصدقنا وأقلامنا الحرة، ستظل روح درويش تطارد اولئك القابضين على السلطة الذين لم يمدوا له يد العون». محمد درويش (1959) الذي استقر كاتباً صحافياً في صحيفة «المدى» كان اصدر مجموعات شعرية بينها «قلق الراحة» و «الاقاصي» ولم تسعفه ايامه الاخيرة في نشر مجموعة اخرى معدّة للطبع. تخاطب ماجدة غضبان الشاعر الغائب: «يا محمد... ما ابتعدت ابداً، فقط ارتديت ثوباً يليق بالاكاذيب المكررة». عباس لطيف الاديب والمسرحي العراقي الدمث ابن مدينة الحرمان ورفيق درويش لعقود، سألته عبر الهاتف معزياً: «أيموت الشاعر وحيداً يا عباس؟» سمعت صدى صوته يردد مراراً: «ومتى لم يمت الشاعر وحيداً؟».