ينفتح سؤال الشيخوخة والأدب على أدباء كتبوا عن شيخوختهم، وعلى آخرين رأوا الشيخوخة في عيون الغير وكتبوا عنها. والمشترك بين الطرفين تجربة الزمن، التي يحملها الأديب الشيخ في روحه ومشيته المتباطئة، ويستعيرها الأديب السائر إلى كهولته من وجوه الحياة وأصوات الحكايات. جاء في كتاب محمود درويش «في حضرة الغياب»: «تماماً كما أنت مسجّى أمامي في كلامي الذي لن يخذله غد شخصي كف عن الخداع، لا لأنه تأدّب وتهذّب، بل لأنه يحتضر الآن ويصير إلى خبر، لا عدو له ولا صديق... خبر عن مسافرين اثنين، أنا وأنت، لم يفترقا في مرآة أو طريق...». كان درويش، وهو يستهل كتابه بكلمات عن السفر والاحتضار، محاصراً بموت وشيك الوصول، يترك للشاعر فسحة التذكّر والربط بين البداية والنهاية، وترجمة الصمت الحزين إلى كلمات. انطوى الكتاب على سيرة ذاتية ثانوية المعنى، استعادت أطياف قرية فلسطينية محاها اليهود من الوجود، وترجم، أولاً، وكما أراد صاحبه، السيرة الذاتية الإبداعية للشاعر، الذي تصرّفت به الحياة، لاجئاً ومنفياً و «عائداً كأنه لم يعد»، وتصرف بها كاتباً وقارئاً ومبدعاً متعدد الولادات. جسّد درويش في شيخوخته الأدبية جدل الزيادة والنقصان وظل شاباً. وإذا كان في أقدار درويش ما جمع بين المنفى والمرض وشيخوخة قصيرة المدى، واجهها بإبداع طويل، فقد عرف نجيب محفوظ الشيخوخة قبل أن يصل إليها، فكتب عنها في «الثلاثية»، وهو لا يزال شاباً، وأعطى أفضل أعماله «الحرافيش» بعد أن دخل فيها، واستذكر في «يوم قتل الزعيم»، الشاب الوفدي الذي كانه وقد أوغل في العمر. والمتبقي عند الشاعر الفلسطيني إبداع يقاتل الزمن وتصالح مع شيخوخة خصيبة، تركته عجوزاً في الحياة وشاباً في الكتابة، ومتبقي الروائي المصري رواية متعددة الطبقات وفلسفة روائية عن الموت والحياة: «التقيت برجل له قامة جبل وفم كالمحيط، قال لي: ألم تعرفني، أنا النسيان فكيف نسيتني؟»، يقول محفوظ في أصداء السيرة الذاتية. الشيخوخة في الحياة نسيان وتذكّر، والشيخوخة في الأدب رحلة صاخبة في الروح وبحث عن أسلوب يحتضن التجربة. حاول الشاعر اللبناني عباس بيضون، في روايته «ألبوم الخسارة»، أن يرتق شروخ الحياة بأسلوب جميل النسيج مستعيداً، بعافية عالية، إنسان محفوظ الهائل في استبداده، الذي يعلّم النسيان ويسخر من الذين فقدوا الذاكرة. حاور عباس جدل الربح والخسارة، الذي يفضي إلى نتيجة لا يراهن عليها، فالنثر الجميل لا يوقف نزيف الأيام، إلا في لحظات الكتابة الصافية. والواضح في النزيف، الذي لا يروّض، اختبار في الأدب يصفّق لسيرة إبداعية عالية، ولا تعنيه كومة الأوراق السيئة الذوق والصياغة في شيء. في أواخر حياته، كتب العراقي المنفي طعمة غائب فرمان روايته «آلام السيد معروف»، العمل الصغير المشبع بموهبة كبيرة، وفي أواخر أيامه كتب إميل حبيبي «سرايا بنت الغول»، الرواية التي تئن بذكريات فادحة، وتودّع للمرة الأخيرة «فلسطين العرب» التي ودّعت روحها الفلسطينية منذ عقود. أراد إميل وقد أصبح شيخاً توغّل فيه التعب، أن يضع ذكرياته في صفحات، لن يعيد كتابتها، وأن تكون الذكريات - الكتابة صورة عن إبداعه وفلسطينيّته معاً. وعلى مقربة من إميل، الذي صيّر البوح الوطني فناً حزيناً، كانت المصرية لطفية الزيات، تكتب روايتها الأخيرة «حملة تفتيش»، التي باحت فيها بأسرار أرهقتها طويلاً، وصاغتها بخبرة كتابية عمرها عقود. حاور محمود درويش موتاً كان يشرب معه القهوة كما كان يقول، وعقد محفوظ العجوز صداقة مع التذكّر والنسيان، وصوّر عباس بيضون شروخ الحياة الكثيرة بروح راضية، ورسم إميل حبيبي حياته الآفلة بنثر أقرب إلى الفرادة، وخلعت لطفية الزيات صمتاً أرهقها، ولم ينتظر طعمة فرمان العودة إلى العراق ونشج وحيداً. تقاسم الجميع أمراً واحداً هو: النهاية، إذ ما مضى مضى، وإذ التفكير بكتابة لاحقة مجرد احتمال. وفي النهاية بداية غامضة لا عنوان لها وللنهاية، في الكتابة الأخيرة، صيغتها المفردة على خلاف البداية، الواضحة العنوان والأمل والمسار، التي يسمح لها كرم الصبا والشباب بأن تكون: بدايات. والفارق بين البدايات والنهاية إمكانية الأحلام، فما بعد الغد أوسع من الغد، وتعددية الرغبات وانتظار تحققها. لا غرابة في أن تلتبس النهاية بالمأساة، وأن تكون مرآة إنسان مغترب يقترب من نهايته، وأن يكون الشباب طارداً للاغتراب والأسئلة الأخيرة. الشيخوخة تعريف مأسوي ل «النهاية»، تتضمن ما كان قبل أن يسقط العجز عليه، حال الأم في رواية حليم بركات «طائر الحوم» الذي يحوّم ما شاء قبل أن ينكسر جناحاه، وحال الخال في رواية هدى بركات «ملكوت هذه الأرض» الذي يدون حول رغباته ثم يسقط في الفراغ. وإذا كانت الشيخوخة تعبيراً مأسوياً عن مكر الزمن، وهو ما يستدعي الملك لير في مسرحية شكسبير، فإن في النهاية غير المتوقعة شيخوخة لا تعريف لها، شيخوخة غريبة خارجة عن الزمن، مثل موت الصيّاد عسّاف في رواية عبدالرحمن منيف «النهايات»، حيث السلطة المستبدة تقود الصياد البريء إلى موت، لا علاقة له بالمرض والشيخوخة. الشيخوخة هي الموت المتصاعد الذي يضع الإنسان، وحيداً، أمام رغباته الأخيرة. وهي الشعور بالعزلة بعيداً من الناس وبينهم. ولعل التعامل مع هذا الشعور الذي يدوي في أجواء الروح، هو الذي وسّع آفاق الحداثة الروائية، التي تعترف بعالم الإنسان الداخلي، ووضع في اللغة الروائية جملة من اللغات. فعلى خلاف البدايات الصاعدة، تبدو النهاية بداية أخيرة صامتة، ينتظرها طريق لا لغة له، وعلى الأديب المهجوس بالأفول أن «يكتشف» لغة تترجم ما يقوله الصمت الحزين. سؤال أخير: ما وضع الأديب الذي سقطت «موهبته» قبل وصول الشيخوخة عليه؟ وهل جميع الأدباء يعرفون، إبداعياً، معنى الشباب والكهولة والشيخوخة؟ يعيش الأدب، من الداخل، هؤلاء الذين تشكّل العزلة جزءاً من وجودهم، يمحو الفرق بين تباين الأزمنة. كتب بيتر بورتر: «نستطيع فقط السير في لندن التي لا تبالغ في شيء، مدينتنا المتعلّمة، راغبين بصراخ حر كصراخ الذين ماتوا في زمن الإيمان. لنا وحدتنا وشعورنا بالأسى، نبني بهما وعد النهاية العادلة». الشعور بالأسى والنظر إلى النهاية العادلة من وجوه الشيخوخة الحكيمة، وهما موضوع الأدب في زمن الشيخوخة الحائرة، التي تلتفت إلى الجهات جميعاً، بحثاً عن زمن الإيمان.