يقال إن المحبين يحلمون، فإذا تزوجوا صحوا من الأحلام كما يصحو النائم.. ويقول المثل الشعبي: (من أخذ عشقاً.. طلق عيافاً) قلت: وهذا يحدث فعلاً ولكنه ليس الغالب، وإنما سار المثل للتعجب، فمن يتزوج عن عشق لا يتصور منه أن يطلق زوجته التي أحبها، ولا أن يعافها بعد أن كان هائماً بها يتمناها. ولعل سبب الطلاق بين بعض العشاق هو الإسراف في الخيال، ورسم صورة كمالية للمعشوق يغذيها الحرمان ويزركشها الخيال، فإذا تم الزواج والوصال هبط الخيال من عليائه وربما أصابه الكساح، وذاب الحلم كشمع تحت الشمس.. شمس الواقع.. فالمعشوقة.. أو المعشوق،. كلاهما إنسان عادي محاسن ومساوئ ولكن العاشق قبل الزواج لا يرى غير محاسنه، بل ويكثرها بعيون الحب التي تشبه المجهر، ولا يرى، المساوئ، فالحب هو العمى عن مساوئ المحبوب.. ولكن بعد الزواج والعشرة وتصادم الشخصيات وظهور كل طرف على طبعه تظهر المساوئ للعاشق وتقل المحاسن مع انعدام الحرمان وربما تحصل الصدمة عند قليلي الفهم ضيقي الأفق والاستيعاب فيقع الطلاق. إنما من شبه المؤكد أن الحرمان يزيد الحب ويشعل الخيال والوجد فكل ممنوع متبوع وكل مبذول مملول.. وما الحب - في البداية والنهاية، إلا وليد الإعجاب والانبهار مع الحرمان. وقد قل العشق العميق في العصر الحديث بسبب الفضائيات وسهولة الرؤية، أما حينما كان الرجل لا يرى الفتاة إلا لمحاً فقد كان العشق يملأ الأجواء.. فاللمحة ذبحة.. وكان المحب يتغزل بمعصم الفتاة أو إصبعها إن رآه.. الآن تتفنن الفضائيات في إبراز الجميلات مع الاخراج المدروس والمكياج الفاتن والأزياء الأنيقة ما جعل الكثيرين يزهدون فيمن يرون على الطبيعة.. وكذلك بعض النساء، صارت القنوات هجيرها وسميرها، وصارت تتابع أوسم الرجال وأكثرهم أناقة وشهرة.. ولربما عشقت ممثلاً مشهوراً أو مذيعاً وسيماً وزهدت في الآخرين.. ولهذا آثار سيئة على من طار به - أو بها - الخيال مع أجنحة الفضائيات فإنه يريد أن تقفز له محبوبته من شاشة التلفاز ويزهد في بنت الناس إذا حصل الزواج رغم أنها جميلة شريفة عفيفة بنت أجواد، لكنه اعتاد على الممثلات والمذيعات وتبرمج خياله وحبه وأحلامه على تلك الأشكال.. وما يقال عن الفتيات يقال عن بعض الرجال.. عموما فإن الحرمان يلهب الحب ويسلب اللب.. يقول جميل بثينة: «ولست على بذل الصفاء هويتها ولكن سبتني بالدلال وبالبخل» بينما الجميلات اللاتي لمحن له بالزواج منه - وورد أن بعضهن أجمل من بثينة - زهد فيهن!!: «ولرب عارضة علينا وصلها بالجد تخلطه بقول الهازل فأجبتها بالرفق بعد تستر: حبي بثينة عن وصالك شاغلي لو أن في قلبي كقدر قلامة فضلاً، وصلتك أو أتتك رسائلي ويقولون إنك قد رضيت بباطل منها.. فهل لك في اعتزال الباطل؟ ولباطل ممن أحب حديثه أشهى إلي من البغيض الباذل»! ويقول كثير عزة: «وإن تبخلي يا ليل عني فإنني توكلني نفسي بكل بخيل» وهذا يصدق أنه «ألذ شيء إلى الإنسان ما منعا..» وأن «ما تملكه اليد تزهد فيه العين». وتاريخ العرب مشهور بمصارع العشاق كعروة بن حزام وقيس بن الملوح وتوبة الحميري، وقريباً ابن عمار (صاحب الألفية المشهورة) والدجيما صاحب السامرية (يا جر قلبي جر لدن الغصون).. ولعل رفض العرب تزويج من اشتهر بعشقها من أسباب ذلك، إضافة إلى أن العشق هنا يصبح (فكرة ملازمة ووسواساً قهرياً).. رحمهم الله جميعاً.. وقد ورد (من أحب فكتم فمات فهو شهيد) وهو حديث ضغيف.. وزاده كلفاً في الحب أن منعت ** أحب شيء إلى الإنسان ما منعا ومن شعر عبدالله بن سبيل، ولعل فيه دليلا على أن الحرمان يشعل نيران الحب: «الحب يوم ان مقره ومرساه عندك مداهيله وعندي بنوده عن حال مشغوف غدا داه برداه يبغى الدوا، والدا خطير بزدوه عن صاحب بيني وبينه مساداه لا هوب رايدني ولا أحرزت أروده ليته إلى كزيت له خط يقراه الا ويعطيني حرايض ردوده لو طال ياسه ما هقيت اني انساه اذكر تعاجيبه ولجلاج سوده وأزوال واجد، مير مهيب مشهاه النفس ياقف له عياف يذوده» ويقول الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن بمعنى جميل وشعور صادق: «كلما قلت له: يا ابن الحلال المحبه عطا وانت بخيل التفت يمي وهو عجل وقال: لذة الحب في الشي القليل» وللعباس بن الأحنف: «أحرم منكم بما أقول وقد نال به العاشقون من عشقوا صرت كأنني ذبالة نصبت تضيء للناس وهي تحترق»! شبه نفسه بالشمعة التي تنير للآخرين وهي تذوي وتذوب في النار.. وكان العباس عاشقاً صادقاً قال في محبوبته (فوز) أجمل الأبيات وأسبغ عليها أحلى الصفات، فربما حبب العشق للآخرين، وربما تراسل العشاق بأشعاره في زمانه وتزوجوا من خلالها بينما ظل هو محروماً، خاصة أن من عادة العرب قديماً ألا يزوجوا من تغزل ببنت من بناتهم كما حصل للمجنون مع ليلى - وغيره - خشية أن يظن الآخرون أن بينهما علاقة قبل الزواج! * * * وأكثر العاشقين لا يزيدهم الحرمان من المعشوق إلا تعلقاً به، ولا يزيدهم عذاب فراقه إلا هياماً واشتياقاً: «ولي فؤاد إذا طال العذاب به هام اشتياقاً إلى لقيا معذبه» والسبب أن العاشق يجعل خياله أسيراً لمفاتن محبوبه، ويتصوره دائماً، ويضفي عليه محاسن لا تنتهي، ويظن أن الحياة بدونه لا معنى لها، وأنها تنتهي، وكل هذا من آلام الحب التي يسميها الفلاسفة أوهاما.. لأن العاشق يتوهم أن سعادته بيد معشوقه، وأنه لا يوجد كامل الحسن سواه، فالحب أعمى كما يقولون.. وبهذا يعيش العاشق عذاباً أليماً ممزوجاً ببعض السعادة.. سعادة اللقاء العابر.. والنظرة العجلى.. والكلمة الخجلى.. والأماني والآمال: «أنت النعيم لقلبي والعذاب له فما أمرك في قلبي وأحلاك» وهو صراع مؤلم قمة «الكوميدياء السوداء)..