الأحداث تتلاحق والأخطار تتوالى والغيوم السوداء تتجمع في سماء المنطقة والأزمات تهدد حاضر العرب ومستقبلهم من كل حدب وصوب والمطلوب واحد وهو الاستعداد للمواجهة والتقاط الأنفاس لإعادة لملمة الصفوف وتجميع الإمكانيات وحشد الطاقات. هذا الوصف يتكرر عند الملمات ويستعاد عند الأحداث الجسام والنكبات التي تلحق بالأمة عبر تاريخها الحافل بالتهديدات والمخاطر والمطامع الأجنبية والمؤامرات الخارجية و... الداخلية التي هزت كيان الشعوب وكادت أن تأكل الأخضر واليابس وتقضي على ما تبقى من آمال بغد مشرق. ولمواجهة كل ذلك علينا أن نتساءل بصراحة مطلقة: هل نستسلم بسهولة لكل ما جرى ويجري؟ وهل بيد العرب من القمة إلى القاعدة حيلة في تجاوز المحن والنهوض من جديد: دولة دولة ثم كأمة لا بد من أن يجمعها ولو الحد الأدنى من التضامن والتكامل والتكافل والإحساس برائحة الخطر وتوفير الإرادة الصلبة والعزيمة الصادقة والرغبة الحقيقية بالإصلاح وحشد الإمكانات لصد الأخطار ومنع الانهيار. فالدروس كلها والعبر من التاريخ القديم والحديث علمتنا أن الأمم قادرة على النهوض عندما تستيقظ من غفوتها وتقوم من كبوتها وتنهض لتوحيد الصفوف ومواجهة الأزمات والأخطار بشجاعة وصبر وإيمان. والله عز وجل دعانا إلى التضامن والاستعداد «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل»، (صدق الله العظيم). واليوم تمر الأمة العربية بظروف دقيقة عناوينها الداخلية انهيار الأنظمة واتجاه نحو المجهول وخوف من الضياع واستغلال الفرص من قبل قوى وجماعات لها «أجندات خاصة» تضر ولا تنفع وتؤدي إلى تفكيك الشعوب وتفتيت الأوطان وإشاعة أجواء الفتن والحروب الأهلية والنزاعات التي نعرف بداياتها ولا يدرك أحد إلى أين ستنتهي وننتهي معها. أما عناوينها الخارجية فهي مطامع ومؤامرات أجنبية وإقليمية للهيمنة والسيطرة على المنطقة وسرقة سلطة القرار والحل والربط من العرب، إضافة إلى المؤامرة القديمة الجديدة المستشرسة التي تحوك مخططاتها وخطوطها السامة إسرائيل والصهيونية العالمية ومن لفّ لفهما أو أيد توجهاتهما القاتلة. لا مبالغة في القول إن ما جرى للمنطقة العربية من المحيط إلى الخليج يشبه إلى حد بعيد «التسونامي» السياسي الذي يتزامن في غزوته مع الزلزال الذي ضرب دولاً عدة وما زالت ارتداداته تسمع وترى في دول أخرى. ولهذا استغرب ما أعلن عن تأجيل عقد مؤتمر القمة العربي الذي كان مقرراً في بغداد وتأجل لفترة قصيرة ثم رحّل إلى العام المقبل. فعلى رغم خيبات الأمل العربية من القمم السابقة وحساسية الشعوب من مجرد ذكر اسمها نكرر القول إن التقاء العرب على مستوى القمة، ولو بمن حضر، أمر مطلوب وملح في هذه المرحلة الحرجة لدراسة الأوضاع ومحاولة التوصل إلى حد أدنى للتوافق والعمل المشترك واستعادة الأوراق العربية المسلوبة وتجميعها في أيدي أبناء الأمة صاحبة الحق والشرعية والتاريخ والجغرافيا. لقد استضعفنا الآخرون، على اختلاف هوياتهم ومدى قربهم وبعدهم، فأكلونا وقسّمونا وتقاسموا خيراتنا وبدأوا بتقرير مصيرنا بكل صراحة... ووقاحة. والرد لا يكون بقفازات الحرير ولا بالاستسلام وتجربة أسلوب النعامة في إخفاء رأسها تحت التراب، بل بالوحدة وإظهار «العين الحمراء» وتجميع القوى وإثبات الوجود بحكمة وحنكة بعيداً من التطرف والعنف والتسرع والتهور والمبالغات. كنا نسمع من قبل أن الديبلوماسية تجدي، كما أن ما سمي بالقوة الناعمة حققت نجاحات كبيرة في الماضي مثل العلاقات الاقتصادية والمساعدات والتبادل التجاري والثقافي والرياضي. وكان هذا الموضوع عنوان ندوة مهمة في مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث في الرياض هذا العام. وقد قلت في مداخلتي إن «القوة الناعمة» عنوان يستفزني بسبب ما نشهده من مخاطر فهو قد يصلح في الحب والزواج لكنه لم يعد يصلح في السياسة والحروب، وقد يمكن العمل به في دول اسكندينافيا أو أميركا اللاتنية لكنه غير ممكن في منطقتنا التي تحيط بها المخاطر ويهدد مصيرها الأعداء وأصحاب المطامع والغايات الخبيثة وتتوالى عليها المؤامرة تلو المؤامرة بحيث يصح عليها القول «من لم يكن ذئباً أكلته الذئاب» ومن لم يذد عن أرضه وعرضه وماله وتراثه يفنَ ويهلك ويدخل في عالم النسيان. ومن هنا تتجدد الدعوة للاستعداد لمواجهة تداعيات المتغيرات الكبرى الحاصلة ومعالجة أخطار «التسونامي» القائم والمقبل والعمل لسد الفراغ الحاصل نتيجة لتساقط الأنظمة كأوراق الخريف ووضع خريطة طريق للمستقبل العربي. والمملكة العربية السعودية بالذات مدعوة بإلحاح للعب هذا الدور وقيادة التحركات لتحقيق هذا الهدف السامي قبل فوات الأوان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بخاصة أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يتمتع بثقة ومحبة الجميع في العالمين العربي والإسلامي من القمة إلى القاعدة. والظروف الراهنة قدمت للسعودية على طبق من ذهب هذا الدور لسد الفراغ الحاصل والتحرك فوراً للمّ الشمل وتوحيد الصفوف وإطلاق مبادرات متعددة لجمع كلمة العرب والدفاع عن قضاياهم ومقدساتهم والضغط على الولاياتالمتحدة والدول الكبرى لتبني مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبدالله والمسارعة إلى تحقيق السلام العادل والشامل لأن البديل هو الفوضى والدمار والعنف والإرهاب وتهديد المصالح الغربية قبل المصالح العربية. ولا شك في أن توصل القيادات الفلسطينية إلى اتفاق مصالحة سيسهل على المملكة المضي في جهودها الخيرة ويساهم في إنجاحها بخاصة أن خادم الحرمين الشريفين هو الذي أرسى دعائم الوحدة الفلسطينية وساهم في وضع بنود الاتفاق عبر صلح مكة الذي رعاه قبل 4 أعوام وعاد إلى الواجهة اليوم. والدور السعودي المطلوب لا يقوم إلا بجناحين: «القوة الناعمة» التي أشرت إليها، أي الإمكانات المالية والثروة النفطية والمكانة الروحية للمملكة إضافةً إلى «القوة الخشنة» المرتكزة على الإعداد والاستعداد بحشد الطاقات المحلية والعربية، فلولا قرار الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز ومواقفه الحاسمة عام 1973 لما اكتمل نصر السادس من تشرين الأول (اكتوبر)، ولولا مواقف الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز الحاسمة والجريئة عام 1990 لما تحررت الكويت ولا انزاحت الأخطار الكبرى التي كانت تتعرض لها المملكة من صدام حسين وإيران وغيرهما، ولولا قرارات الملك عبدالله من إصلاحات وتطوير لما عاشت المملكة في أمن وأمان. ولولا قراره الحاسم في شأن إرسال قوات «درع الجزيرة» إلى البحرين لنجحت المؤامرة الإيرانية وضاعت البحرين وتعرض أمن السعودية للخطر الأكيد ولساد التوتر في المنطقة بأسرها. إنها قرارات للدفاع عن النفس، واستعادة زمام الأمور من القوى الدولية والإقليمية إلى اليد العربية، وهي ضرورية وملحة في كل آن، بخاصة في هذه المرحلة الحرجة، لأن حزام النار يحيط بالسعودية ودول الخليج من كل حدب وصوب، والأخطار قريبة ولصيقة بالمملكة، من اسرائيل العدو الأخطر إلى أحداث مصر، وحروب السودان وتقسيمه، إلى الصومال من جهة البحر الأحمر، وأزمة اليمن وما أدراك ما اليمن، وصولاً إلى العراق من الجانب الآخر والأخطار التي تتعرض لها البحرين في ضوء التهديدات الإيرانية المتكررة والزعم بأن الخليج كان فارسياً وسيبقى، وأن كل المنطقة كانت ملك إيران، وكأنها تفتح باب تاريخ الصراع بين العرب والفرس على مصراعيه، على رغم إيماننا بأن الإسلام بتسامحه ومبادئه ورحمته قد أغلق هذا الملف إلى الأبد، مع تكرار الدعوة إلى حوار بنّاء بين إيران والعرب، وبين السعودية وإيران بالذات استكمالاً لما كان بدأه خادم الحرمين الشريفين مع الرئيسين السابقين محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني. فالحكمة مطلوبة... والحزم مرغوب لمواجهة الأخطار وتفكيك حزام النار، وصد موجات «التسونامي» وتوحيد الصف العربي من جديد على رغم كل ما نشهده من فرقة وتشرذم وضعف وحالات ضياع وفوضى... ولكل هذا فإن دور السعودية مطلوب وملح لإنقاذ المركب العربي من الغرق. * كاتب عربي