من المهم أن أبدأ الحوار معك بالسؤال عن غيابك عن الساحة التشكيلية. أو لأكون أدق في الطرح ما سرّ هذا الصمت الذي تعيشه؟ - يحلو الصمت عندما يجد الإنسان أن الحُجرة الصغيرة التي يلازمها، إنما هي أكثر اتساعاً من الخارج، يعاودني هذا الشعور كلما ساورني الشك في أن الكثيرين ممن أفترضهم يشاركونني القلق نفسه، والهواجس نفسها، هم في واقع الأمر ليسوا كذلك وقد أكون مخطئاً. وهل تعتقد أن هناك دوافع معينة وراء الإحباط الذي يصيب المبدعين في بعض الأحيان، مثلما أن هناك محرضات لإنتاج ما يبدعونه في غير فن من الفنون؟ - نحن نختلف عادة في تشخيص الأسباب التي تقف وراء شعورنا بالإحباط، إلا أننا قد نتفق في أن الذي يجري حولنا من أحداث مذهلة يمكن أن يصيب الإنسان بالصدمة، ونحن إما أن نتجاهل هذا الأمر وكأن شيئاً لم يكن فلا يحدث أدنى تغيير في نمط تفكيرنا ثم لا شيء جديد، وإما أن ننزوي في ركن بعيد ونكتفي بالفرجة. أنا لا أنكر أني مارست الهروب في محطات عدة، لكني لا أفعل ذلك لأكتفي بالفرجة وإنما لكي أعود مجدداً بعد أن أكون قد أفلحت - كما أزعم - في التغلب على مسببات الإحباط تلك، وتحويلها إلى أفكار تلامس ضمائر الناس وتعكس - بحسب زعمي - رؤيتنا المشتركة تجاه ما يجري. كأنك تشير إلى علاقة ما بين الفن وأمراض العالم المزمنة، إذ ما الذي يمكن للفن أن يفعله في هذه الحالة؟ - لا شيء على الإطلاق وأنا أدرك هذا جيداً. غير أن ما أقوم بإنجازه من أعمال كالسلم المقلوب ولوحة الريال مثلاً أو الكرسي والبيضة وآلة «الفوشار» وغيرها إنما هي مسألة متعلقة بالرضا الذاتي ابتداءً، فبما أن الإنسان كائن حي فاعل ومتحرك فمن الطبيعي أن يرصد مكامن الفرح أو مشاعر الألم في ما حوله؛ ومن الجميل أن يبتكر طريقته الخاصة للتعبير عنها أو حتى عن رغبته في السخرية أو التهكم أو التنفيس عن الغيظ مثلاً. هذا الفعل يحقق للفنان الكثير من الشعور بالتوازن النفسي وهذا أمر مهم. أما الأثر الذي قد يحدثه أي عمل إبداعي فمتروك للزمن. إذاً ما هو جديدك؟ - أنا منشغل هذه الفترة بإكمال المنظومة التي بدأتها منذ العام 2000 وبين يدي ما لا يقل عن سبعة أعمال جديدة، آمل أن ترى النور قريباً في معرض شخصي أو أن أقدمها «بالمُفرَّق» كالعادة. ما هي في رأيك الأغراض النفعية التي يجب على الفن أن يتخلص منها؟ - المقصود بتحرير الفن من الأغراض النفعية - بحسب الفلسفة المثالية - هو ألا نثقل عليه بما لا يحتمل من رسائل نأتي بها من خارج نطاق الفن باعتباره كائناً مستقلاً، مكتفياً بذاته. وقد أوردت في كتابي «حكايات تشكيلية» بعض الآراء التي تشدد على هذا التوجُّه وتلك التي تتحفظ عليها لكي أصل في نهاية المطاف إلى النتيجة التي أردت الوصول إليها، وهي أن العيب ليس في تحميل الفن بالمضامين وإنما ينشأ الخلل عندما لا ينجح الفنان في إيجاد الصياغة المناسبة لما يود أن يقوله. أشرت في حكاياتك التشكيلية أيضاً إلى ما ذهب إليه «ديدرو» في أن الرسم والشعر لا بد أن يتمتعا بالفضيلة، هل تعتقد من الواجب أن تتناسق الفنون مع الأخلاق والقيم لكي ترتقي بالجمال إلى آفاق واسعة؟ - لقد استحضرتُ أيضاً رأي نقيضه «بودلير» الذي يرى أن الخير والشر لا ينبغي أن يكونا موجودين في الشعر الحقيقي و«تولستوي» يناقض هذا الأخير فيطالب بأن يقاس الجمال بموازين الأخلاق، وهناك «لالو» و«سارتر» ولكل منهما رأيه. هذا يشير بوضوح إلى أنه ما من أحد يستطيع الادعاء بامتلاك الحقيقة، أما الرأي الذي أجده مناسباً - بالنسبة إلي - فهو القائل بأن الفن متناسق مع الأخلاق وغير خاضع لها. هل نحن فعلاً نعيش في زمن أصبح الفن فيه وسيلة للوصول إلى منافع خاصة؟ - لا يخلو الأمر من المنفعة، حتى عندما أقول بأن ممارستي للفن تحقق لي الكثير من الشعور بالرضا فهذه منفعة، بل وحتى المنفعة المادية التي لا غنى عنها بالنسبة للبعض، إنما هي مسألة عادية ولا غبار عليها - إلا أن تغدو غاية تُستهدف لذاتها وعلى حساب القيم المعنوية. بدأنا نشاهد في عدد كبير من المعارض أعمالاً لا تحمل في الواقع المقاييس التي ينادي بها فن ما بعد الحداثة، وحضرت بعض التجارب خالية من الروح الفنية إن جاز التعبير، كيف ترى أنت الاشتراطات الفنية في ممارسة الفن المفاهيمي؟ وهل من الضروري في نظرك الارتقاء بالفن من خلال الانسلاخ من المدارس الفنية التقليدية؟ - هذا حكم قاسٍ، خصوصاً أنك تشير إلى تجارب - كما وصفت، ثم لا أحد يعرف على وجه التحديد ما هي مقاييس فن ما بعد الحداثة، فكل ما في أيدينا لا يزيد عن آراء مبعثرة يسودها الكثير من اللبس. أما الاشتراطات الفنية، تلك التي قد ألزم بها نفسي والتي قد تكون غاية في الصرامة فليس لي أن أفرضها على أحد. أما بخصوص الارتقاء بالفن فثمة من يذهب إلى أن الذي يحدث في هذا الميدان من تحولات إنما هو مجرد انتقال من حال إلى حال وليس بالضرورة تقدماً نحو الأفضل، وبالتالي فإن من حق أصحاب المدارس السابقة البقاء على ما هم عليه - على رغم اعتقادي بأن الطرائق التقليدية في التعبير لم تعد تكفي. هل يعاني فنان ما بعد الحداثة من صعوبة التعاطي مع المدارس التقليدية عندما يفكر بالرجوع إليها؟ أم أن المسألة تعود إلى أصالة الموهبة في داخله؟ - أظن أنك محق في ما ذهبت إليه في الشطر الأول من سؤالك. إلا أن الأمر لا يتعلق بالموهبة بل بالخيار الحالي الذي ترسخ على مر السنين، ثم لن يكون سهلاً على الفنان أن يعود بعد ذلك إلى خيارات سابقة - حتى كمجرد رديف وليس كبديل. ماذا عن الأبوة التشكيلية العربية والتي لم يحالفكم الحظ كفنانين لأنْ تكون لكم مرجعية تتكئون عليها وتفاخرون بما قدمه أسلافكم؟ - أنت تعرف أن الساحة العربية زاخرة بالآباء المؤسسين، الذين نفاخر بإنجازاتهم، غير أن الإشكالية تكمن في فكرة الأبوة ذاتها أو المرجعية المتعلقة بالتجديد، ذلك لأنها تعود بالضرورة إلى الأمم التي تصنع الحدث، ولسنا نحن من يصنع الحدث، هذا مع التشديد على أن مثل هذا الإقرار لا يعني حتمية أن نرضخ لمشيئة الأقوياء طالما كنا نمارس أشياءنا بشروطنا نحن. هل ترى أن الفنان العربي محظوظ لأنه خرج عن الوصاية؟ - سيكون محظوظاً إن استطاع أن يمثل نفسه ليس إنكاراً للنسق العالمي العام، بل انتصاراً على أي شعور بالهزيمة خصوصاً في هذه الأيام العصيبة.