مع انشغال العالم بظهور «داعش» وأخوته من التنظيمات التي أضحت أدوات في الصراعات الإقليمية والدولية، ظهرت خلال 2016 في أكسفورد النسخة الورقية أو الأكثر شيوعاً من كتاب «الإسلام والامبراطوريات الأوروبية» من تحرير دافيد ماتدال أستاذ التاريخ في جامعة اوكسفورد، والذي حوى دراسات متخصصة استعرضت خبرة الامبرطوريات التي حكمت غالبية العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب، مروراً بآسيا الوسطى والبلقان (روسياوألمانيا وهولندا وفرنساوبريطانيا) باحتواء المسلمين حيناً وتسييس الإسلام حيناً آخر وفق الظروف والمصالح. وفي غضون ذلك، كان ماتدال أنجز كتابه المهم «الإسلام وحرب ألمانيا النازية»، الذي صدر بالإنكليزية في الطبعة العادية عام 2017 وتُرجم إلى الألمانية، وهو يستحق بالتأكيد أن يترجم بسرعة إلى العربية لأهمية ما ورد فيه. فالكتاب يستند بالدرجة الأولى إلى الوثائق غير المنشورة من أرشيف الدولة والأرشيف العسكري والمذكرات غير المنشورة والمنشورة وغيرها، ما يكشف عن أمور جديدة لها علاقة بالمنطقة بطبيعة الحال وبعض الشخصيات مثل الحاج أمين الحسيني وغيره. الجديد في الكتاب هو الكشف عن التغير الكبير في الاستراتيجية الألمانية تجاه الإسلام والمسلمين في 1942 نتيجة للتطورات العسكرية في الحرب العالمية الثانية. ففي السنوات الأولى للحرب، كانت القيادة الألمانية منتشية بانتصاراتها في أوروبا، وعندما اجتاحت البلقان مع حليفتها إيطاليا الفاشية تركت كل المناطق التي يتمركز فيها المسلمون (البوسنة والجبل الأسود وألبانيا وكوسوفو) لحليفتها إيطاليا. ولكن مع الهجوم الألماني في صيف 1941 على الاتحاد السوفياتي وجدت ألمانيا نفسها تحكم مناطق يسكنها مسلمون (شبه جزيرة القرم والقوقاز)، كما أن انتشار الجيش الألماني الواسع، والخسائر الكبيرة التي مني بها في الجبهة الشرقية، جعلت القيادة الألمانية تراجع استراتيجيتها وتبلور استراتيجية جديدة على مستوى أوروبا والعالم يحتل فيها الإسلام والمسلمون مكانة واضحة. كانت هذه الاستراتيجية الجديدة تهدف إلى أمرين متداخلين لتأمين زخم جديد لقوة ألمانيا التي أصبحت تحارب في ثلاثة قارات ذات وجود مسلم مؤثر: أوروبا وآسيا وأفريقيا. أما الأمر الأول فقد اعتمد على خبراء الخارجية والدعاية والمخابرات وبعض العلماء المسلمين في الترويج إلى أن النازية لا تتعارض مع الإسلام، بل إن الإسلام والنازية لهما عدوان مشتركان: البلشفية واليهود. ومع الترويج لذلك واستقطاب المسلمين في كل مكان أخذ الألمان في استثمار فكرة «الجهاد» عند المسلمين ضد «أعداء المسلمين» (بريطانياوفرنساوروسيا) والدعوة للثورة على حكم هؤلاء الأعداء وتحرّر المسلمين من الهند إلى المغرب. وفي هذا السياق، وبسبب نقص الشباب الألماني بسبب تزايد الخسائر في المعارك، أصبحت برلين معنية بتجنيد المسلمين في فرق عسكرية خاصة ترتبط بالقوات الخاصة SS التي كان يرأسها الجنرال هملر. في هذا الإطار، قررت برلين التعاون مع شخصيات معروفة في المشرق وفي البلقان (أمين الحسيني وشكيب أرسلان ومحمد خانجيتش وعلي أغانوفيتش وعيرهم). فالشيخ محمد خانجيتش أخذ يصرح علانية بأن المسلمين «هم الحلفاء الطبيعيين للرايخ الثالث»، بينما لفت الشيخ علي أغانوفيتش في اجتماعاته مع المسؤولين الألمان إلى أهمية مسلمي البلقان ضمن العالم الإسلامي وإلى أهمية إحياء الجامعة الإسلامية، وصولاً إلى ضرورة إحياء الخلافة التي رشّح لها مفتي القدس الحاج أمين الحسيني. ومن هنا دعت قيادة القوات الخاصة الحاج الحسيني على عجل في 1943 ليقوم بجولة في البوسنة ليروج لهذا «التحالف الطبيعي» بين الإسلام والنازية ضد الأعداء المشتركين (روسياوبريطانياوفرنسا)، ويحض الشباب المسلمين على التطوع في الفرقة العسكرية «خنجر» التي كانت تتبع القوات الخاصة SS. ومن الواضح أنه كانت هناك سياسة تعبئة إسلامية لهذه القوة بمتابعة الحاج الحسيني، إذ تم تأسيس معهد للدعاة في ألمانيا لتخريج أئمة لكتائب هذه الفرقة، كان يزوره من حين إلى آخر الحسيني ويثير بخطبه حماسة المشاركين، وأصبح هؤلاء الأئمة يحرصون على تجييش المشاعر الدينية للجنود وممارسة الشعائر الدينية (الصلاة والصوم الخ). أما السبب في ذلك، فقد كشف عنه قائد القوات الخاصة SS الجنرال هملر في اجتماع شارك فيه وزير الدعاية غوبلز وكبار الضباط والخبراء في 28/1/1944. ففي هذا اللقاء استعرض هملر ما تقوم به ألمانيا في مناطق المسلمين، حيث شكلت فرقة عسكرية في البوسنة تقتصر على المسلمين وتتمتع ب «بطابع ديني». ولكي لا يترك الحضور في استغرابهم سارع هملر إلى توضيح فائدة ذلك بالنسبة إلى ألمانيا المشغولة بحروبها في عدة جبهات: «أنا لا يوجد لدي أي شيء ضد الإسلام، لأنه يربي الرجال في هذه الفرقة لأجلي ويعدهم بالجنة حين يحاربون ويُقتلون في المعارك. إنه دين جاذب للجنود!». مع هذه الصورة الوردية للتجربة الأولى في البلقان بمساعدة الحاج الحسيني، تشكلت حماسة على مستوى العالم الإسلامي. فقد اقترح الحسيني أن تقوم القيادة الألمانية بتجنيد المسلمين الذين أسرتهم فرنسا وتدريبهم لأن هؤلاء «يرغبون بالقتال ضد الانكليز والأميركان في لإيطاليا». ولكن مع الأيام تبيّن أن هذه التجربة لم تكن جاذبة، إذ إن كتيبة شمال أفريقيا التي وضعت تحت قيادة ضابط الغستابو هنري لافونت والجزائري محمد المهدي لم تجذب أكثر من 180 جزائرياً إليها. ومن ناحية أخرى، كان الحسيني اقترح في صيف 1944 تشكيل «الجيش العربي الإسلامي»، إلا أن قيادة القوات الخاصة SS اعترفت لاحقاً أن هذه المبادرة لم ترق إلى الطموحات المتوقعة، إذ إنه لم يتقدم للانضمام إليها سوى 300 عربي فقط. كانت هذه الطموحات والمبادرات تشمل أيضاً شبه جزيرة القرم والقوقاز، ولكن الحرب في منتصف 1944 أخذت ترتدّ على ألمانيا التي تحولت من الهجوم إلى الدفاع. في هذه الحال أخذت القوات الألمانية تنسحب بسرعة من المناطق التي عوّلت على المسلمين فيها (البوسنة وغيرها)، تاركةً المسلمين هناك لمصيرهم المجهول. فقد كان المسلمون في الفرق التي شكلتها ألمانيا يشنّون الهجمات بحسب ماتقتضيه المصلحة الألمانية أو يدافعون عن المواقع الألمانية التي تتعرض للهجوم سواء من قوات الجنرال ميخائيلوفيتش (الذي كان يريد إحياء يوغوسلافيا الملكية تحت سيطرة الصرب)، أم من قبل قوات الزعيم تيتو (الذي كان يدعو إلى جمهورية فدرالية). ومع انسحاب ألمانيا في النصف الثاني من 1944 أصبح المسلمون في الفرق التي شكلتها ألمانيا هدفاً للطرفين، وعندما انتصرت قوات تيتو (البارتيزان) في نهاية الحرب قبضت على «المتعاونين» مع ألمانيا النازية سواء من زعماء المسلمين أم من العسكريين وحاكمتهم. كتاب ماتدال «الإسلام وحرب ألمانيا النازية» يكشف عن جوانب كانت مخفية أو غير معروفة بما فيه الكفاية في هذه المقاربة الجديدة لألمانيا النازية مع الإسلام والمسلمين، التي عولت عليها كثيراً لكسب الحرب، لكنها ارتدَّت على المسلمين في نهاية الأمر.