ثمة قضية لم تأخذ حقها من الاهتمام والتوثيق في المنطقة ألا وهي مشاركة الضباط البشناق والالبان في حرب 1948 الذين جاؤوا الى بيروت خلال عام 1947 وانضموا الى «جيش الانقاذ» بعد تأسيسه وأبلوا في المعارك العسكرية بحكم خبرتهم السابقة، ثم تشتتوا بين بلاد الشام وبلاد المهجر حيث انضم بعضهم الى الجيش اللبناني أو السوري وهاجر بعضهم الآخر الى الولاياتالمتحدة وكندا واستراليا الخ. وعلى رغم ورود اشارات عن هؤلاء الضباط في كتابات عبدالسلام العجيلي وهاني الهندي وزهير الشاويش وغيرهم، الا انه لم يجر حتى الآن عمل بحثي ولم تنشر أية دراسة توضح قدومهم المفاجئ الى المنطقة ودورهم في العمليات العسكرية التي جرت خلال 1947-1949. من بين الضباط المسلمين البلقان الذين قاتلوا في فلسطين شخصية أقرب الى الاسطورة ألا وهو الياس أو الز درويشفيتش Elez Dervisevic، الذي امتدت حياته على كامل القرن العشرين تقريباً. فقد كان درويشفيتش طفلاً حين شارك في الحرب العالمية الاولى (1915-1918)، وهو كان بذلك أحد أصغر المقاتلين في تلك الحرب، وعندما عاد الى بلاده كانت هناك دولة جديدة في انتظاره (يوغوسلافيا)، وبرز نجمه من جديد في الحرب العالمية الثانية حين انهارت يوغوسلافيا وظهرت «دولة كرواتيا المستقلة» حيث برز كسياسي متعاطف مع السياسة الالمانية في المنطقة. وفي هذا السياق فقد برز مفتي القدس محمد أمين الحسيني الذي زار زغرب وسراييفو في عام 1943، وأثار في نفوس المسلمين هناك الحماسة والامل ل «تحرير فلسطين من الاستعمار البريطاني والخطر الصهيوني بمساعدة ألمانيا». ولكن مع اندلاع الحرب بين القوميين والشيوعيين في نهاية الحرب ووصول الحزب الشيوعي اليوغوسلافي الى السلطة في صيف 1945 ليحكم كل يوغوسلافيا اضطر الياس درويشفيتش مع رفاقه الى اللجوء الى ايطاليا المجاورة، حيث بقي هناك في معسكر للاجئين السياسيين الى صيف 1947. في ذلك الوقت بدأت اتصالات عربية مع هؤلاء اللاجئين من البشناق والالبان الموجودين في روما، خصوصاً من الضباط والخبراء، لاستقدامهم الى المنطقة للمشاركة في «جيش الانقاذ» الذي كان يدور الحديث عن تأسيسه والمشاركة في العمليات العسكرية ضد «العصابات الصهيونية» في فلسطين. وبالفعل فقد استجاب حوالى 300 بشناقي وألباني من هؤلاء وذهبوا بواسطة البحر الى بيروت، حيث نقلوا بعدها الى قطنا بالقرب من دمشق. وقد تنوعت دوافع هؤلاء بين الحماسة للقتال الى جانب العرب، الذي أثاره بينهم المفتي الحسيني خلال زيارته للبوسنة، وبين تفعيل خبراتهم العسكرية وتأمين فرص حياة تليق بهم بدلاً من البقاء في معسكر للاجئين في ضواحي روما. من هؤلاء كان الياس درويشفيتش الذي ذهب مع مجموعة من الضباط البشناق الى بيروت ومن ثم انضم الى جيش الانقاذ وحارب في فلسطين خلال 1947-1948، ونظراً لما أبداه في هذه الحرب عرض عليه الانضمام الى الجيش السوري حيث تدرج في الرتب من ملازم الى رائد. في غضون ذلك كانت أخبار درويشفيتش قد انقطعت تماماً عن أسرته في البوسنة وأصبحت أقرب الى الاسطورة. ولتفكيك هذه الاسطورة والوصول الى الحقيقة كان هناك أكثر من خيط. وبعد زيارات عدة الى دمشق تمكنا من الوصول الى ابنته التي تخطت الستين. انها السيدة نسيمة، التي حددت موعداً في بيتها بدمشق في يوم الخميس 25 حزيران (يونيو) الماضي. خرجنا بعد اللقاء بمجموعة من الوثائق والصور النادرة التي تسمح بتركيب الصورة الحقيقية عن هذه الشخصية التي كانت أقرب الى الاسطورة. من هو علي درويشفيتش؟ ولد في 1904 في أسرة تتعاطى التجارة ببلدة بيلنا Bilina شمال شرقي البوسنة آنذاك، التي كانت في اطار امبراطورية النمسا والمجر. كان ابوه سليمان آغا درويشتفش تاجراً معروفاً، وكان له شقيقان (محمد علي وعثمان) وأخت واحدة (صفية). مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وانتشار المخاوف في البلدة من هجوم للصرب عليها انتشرت الدعوة الى تشكيل فرقة من المتطوعين لحماية البلدة من أي هجوم. وقد انضم الى هذه الفرقة التي تألفت من 450 متطوعاً الأخ الاكبر محمد علي. وفي أحد الأيام قام أفراد من هذه المجموعة بعبور نهر درينا فردت عليهم قوة حراسة صربية وقضت عليهم جميعاً بمن فيهم محمد علي. كان الياس آنذاك في ال 11 من عمره يقف على الضفة الأخرى (البوسنة) وشاهد بأم عينه مصرع أخيه. وفي ربيع 1915 قامت ايطاليا باعلان الحرب على النمسا. في ذلك الحين كانت تتمركز الكتيبة الاولى للمشاه 91 بالقرب من البلدة، فوصلت الأوامر اليها بالتحرك للقتال في جبهة سوس ضد القوات الايطالية. وبحكم العلاقات الطيبة مع السكان المحليين أمر قائد اللواء الويز مارتينك A. Martinek آمر الكتيبة بأن يأخذوا معهم الياس الصغير ك «مرشد» لهم عبر الشمال (سافا وسكفونيا) الى ان يصلوا الى محطة القطار. وحين صعد الجنود الى القطار كان معهم الياس الصغير الذي اصبح جندياً. ونظراً لصغر سنه لم يسمح له القائد مارتينك ان يذهب الى القتال في الجبهة بل بقي في الصفوف الخلفية يساعد في تسلم الرسائل وفي اعداد الطعام. وبعد شهور سمح له بالمشاركة في الحراسة. وفي إحدى الليالي سمع صوتاً فصرخ بكل قوته «ارفع يديك» وتبين لاحقاً ان ثلاثة جنود ايطاليين كانوا يحاولون التسلل الى المعسكر. ومع ان القائد مارتينك لامه لمشاركته في الحراسة الا ان المكافأة على ما قام به جاءت في اليوم التالي حين رقي الى عريف في سن الرابعة عشرة، وبهذا أصبح أصغر عريف في الجيش الامبراطوي النمسوي. بعد 19 شهراً من المشاركة في القتال على جبهة سوس جرح الياس الصغير وحمل الى مستشفى عسكري في فيينا العاصمة. وقد زاره القائد مارتينك وأهداه ساعة جيب منقوشاً عليها «تذكار الى ابني الشجاع» وقد أثار الياس الصغير اهتمام الجميع وخصصت له القيادة العامة إماماً خاصاً له لتعليمه أسس الدين الاسلامي. وحين شفي وسرح من المستشفى أرسلته القيادة العامة الى قصر ولبرغ في بادن، حيث كانت تعيش اسرة ارنشتالرErnsthater التي اعتنت به وسجلته في المدرسة العسكرية في براتيسلافيا حيث تخرج منها بعد سنة. وفي أحد الايام حدث معه ما لم يكن في الحسبان. فقد جاء الى المدينة ملك بلغاريا فريناند لزيارة الامبراطور النمسوي كارل وحين لمح الملك فرديناند الياس الصغير وهو يلبس طربوشاً سأله «هل انت تركي؟» فرد عليه الياس فوراً بقوة «انا نمسوي، أنا بشناقي!». وقد أعجب الملك برده ودعاه للاقتراب منه ومرافقتهما في المشي. بعد نهاية الحرب عاد الياس الى بلده في البوسنة حيث كانت الاوضاع قد تغيرت كثيراً. ونظراً لانهم لم يعترفوا بشهادته من المدرسة العسكرية فقد ساعده صديق الاسرة آدم آغا سيتش للحصول على عمل في البنك التجاري الاسلامي في بيلينا. وفي 1932 ذهب في زيارة الى النمسا والمجر ليرى أصدقائه كارل وايزابيلا حيث حصل على هدية مقدارها 5 آلاف فورين. ومع هذا المبلغ أسس شركة صغيرة لتصدير المنتجات الزراعية وقد ازدهر عمله لاحقاً الى ان اندلعت الحرب العالمية الثانية في 1939. في البداية صمدت يوغوسلافيا كدولة بفعل السياسة المؤيدة لألمانيا النازية التي كان يمثلها الملك اليوغوسلافي بطرس، ولكن مع الانقلاب العسكري المعادي لهذه السياسة في آذار (مارس) 1941 قامت ألمانيا وإيطاليا باجتياح يوغوسلافيا في نيسان (ابريل) 1941 حيث دعمتا الكروات لاعلان «دولة كرواتيا المستقلة» التي شملت البوسنة أيضاً. وفي هذه السنوات برز نجم الياس درويشفيتش. شهدت يوغوسلافيا الاولى (1918-1941) تنافساً شديداً بين بلغراد وزغرب حول استقطاب البشناق، وحاولت بلغراد خلال 1918-1941 إقناع بعض البشناق بأنهم من «الصرب المسلمين» وحفزتهم على ذلك بالمناصب والمساعدات المختلفة. وفي المقابل كان لزغرب أنصارها في البوسنة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من «الكروات المسلمين»، والذين وجدوا فرصتهم الآن في «دولة كرواتيا المستقلة» حيث تبوأوا فيها المناصب المختلفة. وما بين هؤلاء واولئك كان هناك البشناق الذين يصرون على أنهم شعب مستقل ليسوا من الصرب ولا من الكروات، وهم من عوّل عليهم الحزب الشيوعي اليوغوسلافي في معركته ضد السياسة الصربية لتصريب البشناق وضد السياسة الكرواتية لتكريت البشناق. كان الياس درويشفيتش من المعسكر الثاني المؤيد لزغرب وألمانيا النازية، وهذا ليس بمستغرب بسبب ذكرياته عن «رفاق السلاح» الذين حارب معهم في الحرب العالمية الاولى، والذين عاد بعضهم الى زغرب والبوسنة في اطار القوات الالمانية التي خدمت هناك. وبرز درويشفيتش بسرعة وأصبح محافظاً لمدينة بيلينا ومن المدافعين عن الدولة الكرواتية الجديدةوألمانيا النازية. ومن هنا فقد كان من الطبيعي مع اندلاع الصراع بين الاطراف الثلاثة (الصرب الذين يريدون استعادة يوغوسلافيا كما كانت تحت هيمنتهم خلال 1918-1941، والكروات الذين يريدون باستماتة استمرار دولتهم القومية، والشيوعيون الذين كانوا يدعون الى يوغوسلافيا فيديرالية جديدة) أن تمتد عمليات القتال والانتقام الى كل الجبهات. ومع ربيع 1945 كانت قوات الحزب الشيوعي تتقدم لتسيطر على الوضع ولتدفع الطرفين الآخرين بين خيارين: الاستسلام أو اللجوء الى الدول المجاورة. كان الياس درويشفيتش من هؤلاء الذين اختاروا اللجوء الى ايطاليا، ونجح في استقدام ابنته الكبرى سلمى التي كانت في الثانية عشرة. ومع سلمى اختار طريق البحر ليذهب الى بيروت في 1947، تاركاً في بيلينا زوجته وولديه أحمد ومحمد علي وابنته الصغرى نسيمة التي كانت في الرابعة من عمرها. في أرشيف العائلة الذي تحتفظ به السيدة نسيمة صور عن والدها في «جيش الانقاذ» آخرها يعود الى تموز (يوليو) 1949، ويبدو أن ما أظهره الياس درويشفيتش من خبرة وشجاعة دفعت قيادة الجيش السوري لتعرض عليه الانضمام اليه. ولدينا وثيقة من تشرين الثاني (نوفمبر) 1949 موقعة من «الزعيم حسني الزعيم القائد العام للجيش والقوات المسلحة»، وهي عبارة عن « بطاقة هوية» مصدّرة للملازم الياس درويش ( كما سيصبح اسمه الآن). ومن اللافت للنظر هنا ان الوثيقة تذكر انه من «الجنسية البوسنوية» وانه «متعاقد مع وزارة الدفاع الوطني برتبة ملازم». وكما تذكر ابنته السيدة نسيمة فقد حصل بعدها مباشرة على الجنسية السورية وخدم في فوج الهندسة في ضواحي دمشق (قارة والضمير). وتظهر صور أخرى تقدمه وعلاقاته القريبة مع العقيد أديب الشيشكلي (حارب معه في فلسطين خلال 1948)، الذي قام بانقلاب 1950 وحكم سورية حتى 1954. والى تلك الفترة، نهاية الخمسينات، يعود التئام العائلة من جديد، حيث أن الياس درويش تعزز وضعه بعد أن ترقى الى رتبة ملازم أول، ولذلك قرر أن يلم شمل العائلة في دمشق. وهكذا جاءت ابنته الصغرى نسيمة مع أمها وأخويها أحمد ومحمد علي الى دمشق في 1958. وقد طابت الحياة في دمشق لنسيمة وامها الا أن اخويها لم يتكيفا وفضلا العودة الى البوسنة. وربما كان السبب في ذلك العلاقة المهنية ثم العائلية التي جمعت بين الضابط المخضرم درويش وبين العقيد حسن الجلاغي آمر لواء السبعين في الكسوة، الذي كان له دوره في انقلاب آذار 1963. فقد تقدم العقيد جلاغي لخطبة نسيمة وتزوجها، ولكن الفرحة لم تتم لان العقيد جلاغي سرح بعد أن انفرد حزب البعث بالسيطرة على السلطة في نيسان (ابريل) 1963. ويبدو مع ذلك ان الضابط درويش كان له احترامه بين أجنحة السلطة المتصارعة. ففي أرشيف العائلة لدينا تنسيب من وزير الدفاع حافظ الاسد وقرار رئاسي من رئيس الدولة نور الدين الاتاسي بترفيع الياس درويش الى رتبة نقيب ابتداء من 1/7/ 1968. وتظهر مجموعة الصور الياس درويش برتبة رائد في 1972، وهي التي احتفظ بها حتى تسريحه في 1975. وعلى رغم تسريحه فقد أبقت عليه وزارة الدفاع كموظف مدني في مؤسسة الانشاءات العسكرية حتى 1985، حين فضل البقاء في البيت الى أن توفي في 6/5/1990 ودفن في مقبرة نجها. في سنواته الدمشقية لم ينسه رفاق السلاح القدامى، حيث بقيت السفارة النمسوية تتصل به وتدعوه للمناسبات المختلفة. وتظهر من بين الصور واحدة تجمعه بالرئيس النمسوي السابق كورت فالدهايم خلال زيارته الى دمشق في 1985، والذي أثير لاحقاً موضوع ماضيه النازي أيضاً.br / زارت نسيمة مسقط رأسها بيلينا، الذي أصبح الآن ضمن «جمهورية الصرب»، ورأت أصدقاء طفولتها الذين انقطعت عنهم حوالى خمسين سنة وأصبحوا الآن معروفين كالصحافي نديم رفعت بيغوفيتش. ذهبت الى مسقط رأسها وموطنها بجواز سفرها السوري، اذ أن تضارب المعلومات حول تاريخ ولادتها بين سجلات البلدية في بيلينا وجواز سفرها السوري يعرقل حصولها على جواز سفرها الاصلي. مع جنسيتها السورية لا تزال البوسنة حاضرة بقوة في بيت السيدة نسيمة سواء مع اللغة البوسنوية الصافية، التي يخيل لسامعها ان صاحبتها لم تغادر البوسنة البتة، أو مع أصغر التفاصيل في الضيافة. الحديث في البوسنوية يتم دائماً مع ابنها المهندس المقيم في دمشق ومع ابنتها المقيمة في الولاياتالمتحدة حين تتصل بها بالهاتف من حين الى آخر خلال النهار.