ماذا تقول زهرة برية تتمسك بتربة أرض تكاد تجفّ لولا حبّها للحياة؟ تتحدى الأراضي القاحلة خطر التصحّر، معلنة أنها أرض المراعي، ومهد للأصول الوراثية (الجينية) للمحاصيل، وحاضنة التنوّع البيولوجي النادر والنباتات الطبيّة والعطرية. ربما كانت قاحلة، لكنها الأرض التي تعيل أكثر من ثلث سكان الكوكب الأزرق، معظمهم من المهمشين الذين تتناساهم خطط التنمية، من دون أن تنسى الجرافات التهام أراضيهم من أجل بناء قرية سياحية هنا أو منطقة سكنية هناك. المفارقة أن هذه المشاريع الجائرة توصف بأنها «تنموية»، لكنها تدوس الكائنات الحيّة، بدءاً من حشرة صغيرة كامنة في التربة، وصولاً إلى الأشجار. من هذه الصورة عن حيوية الأراضي القاحلة، استوحت الأممالمتحدة موضوع الاحتفال ب «اليوم العالمي لمكافحة التصحّر والجفاف». والمعلوم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كرّست عام 1994 تاريخَ السابع عشر من حزيران (يونيو) سنوياً، يوماً عالمياً لمكافحة التصحّر. وصادف ذلك تاريخ الانتهاء من صوغ الاتفاقية الدولية للتصحّر. وجرى الاحتفال بهذا اليوم العالمي للمرة الأولى، عام 1995. وفُتِح باب التوقيع على الاتفاقية يومي 14 و15 تشرين الأول (أكتوبر) 1994، ودخلت حيّز التنفيذ في 26 كانون الأول (ديسمبر) 1996. الأشجار تبعد شبح التصحّر عام 2011، اعتمدت الأممالمتحدة شعار «غابات للحفاظ على حيوية الأرض القاحلة»، للاحتفال باليوم العالمي لمكافحة التصحّر. وفي هذا الأمر إشارة إلى أن السنة الجارية مكرّسة كعام دولي للغابات، ما جعل من هذه الأخيرة ترسيمة مشتركة بين معظم الحوادث والمناسبات البيئية هذه السنة. إذ رفع «يوم البيئة العالمي» في الخامس من حزيران (يونيو) 2011، شعار «الغابات الطبيعة في خدمتك». وعلى غراره، جَعل «اليوم العالمي للتنوّع البيولوجي» 2011 شعارَه «الغابات: كنز الأرض الحي». وكذلك تُدلّل هذه الأمور على ترابط قضايا البيئة وتلاحمها بعضها مع بعض. وتحتم علاقات التأثير المتبادل بين هذه القضايا إيجاد حلول متكاملة، وطرق رشيدة متناغمة في الإدارة. والمعلوم أن الأشجار تحمي الأراضي والتربة. ومثلاً، تساهم جذور أشجار السنط في تكوين المركبات النيتروجينية وحفظها في التربة. وتستضيف السنغال احتفال الأممالمتحدة ب «اليوم العالمي»، الذي يتقاطع مع أسبوع أفريقي أول للأراضي الجافة، بدأ في العاشر من حزيران (يونيو) 2011. ويشارك في الاحتفالية السنغالية أكثر من مائة عالِم وممثلي حكومات ومنظمات دولية. يجتمع هؤلاء في داكار لمناقشة موضوعات تشمل تحديات التصحّر والتغيّر في المناخ، وفقدان التنوّع البيولوجي، وطُرُق التعرّف الى مصادر أمراض البيئة، بدل الاقتصار على معرفة أعراضها ونتائجها. ويشارك في تنظيم هذه الاحتفالية، الاتحاد الأفريقي، و «المنتدى الأفريقي للغابات» و «منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة» (فاو) و «الاتفاقية الدولية لمكافحة التصحّر» وغيرها، إضافة الى البلد المضيف. مصطلح لكارثة التراب في المناسبة، التقت «الحياة» الدكتور محمد عبد الفتاح القصّاص الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم جامعة القاهرة. وسبق للقصّاص أن ترأّس «الاتحاد الدولي لصون الطبيعة»، وهو أول من استخدم مصطلح التصحّر بالإنكليزية، عبر طرحه في «المؤتمر الدولي الثاني لبحوث المناطق الجافة» في الولاياتالمتحدة. وحينها، قدّم القصّاص دراسة بعنوان «التصحّر في المناطق المتاخمة لجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى وإمكان معالجته». وفي 1974، اتخذت الأممالمتحدة قراراً بعقد أول مؤتمر دولي لدراسة هذه المشكلة، واستخدمت كلمة التصحّر بالإنكليزية، وانعقد المؤتمر في نيروبي1977. استهلّ القصّاص حديثه بشرح معنى التصحّر وأبعاد هذه القضية تاريخياً. وبيّن ان علماء الجغرافيا لاحظوا منذ أوائل القرن العشرين، أن المناطق المتاخمة للصحاري، مثل المناطق المتاخمة لجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى، تتحوّل إلى ما يشبه الصحراء. وحينها، ساد اعتقاد بأن الصحراء تزحف على أراضٍ خارجَها. استمر هذا المفهوم من عام 1921 حتى عام 1968. ثم تكشّفت حقيقة أن الكثبان الرملية تزحف فعلاً، لكن هذا يمثل أقل من 10 في المئة من مشكلة التصحّر. ففي سنة 68، داهمت موجة جفاف شديدة جداً جنوب الصحراء الكبرى والساحل الأفريقي، وامتدت شرقاً حتى المحيط الهندي والبحر الأحمر، واستمرت حتى 1970. وانصب الاهتمام على عمليات الإغاثة. ثم جاءت دراسات علمية متأنية لتعلن أن الصحراء لا تزحف، بل أن الأراضي الجافة (وهي حاضنة المراعي والزراعات المطرية وبعض الزراعات المرويّة)، هي التي تتدهور وتتصحّر، نتيجة استنزافها وزيادة الضغط عليها، إضافة إلى تأثير جفاف المناخ. ولذا، عُرّفَت كلمة التصحّر في «الاتفاقية الدولية» (1994) بأنها تدهور الأراضي في المناطق الجافة بفعل الإنسان وتغيّر المناخ. وتحدّث القصّاص أيضاً عن أسباب عدم حدوث تقدّم جوهري في مسألة التصحّر على المستوى الدولي، لحد الآن. ورأى أن من غير المجدي النظر إلى هذه القضية على أنها تخصّ الكوكب الأرضي بأكمله، على رغم أنها قضية تؤثر فعلياً على هذا المستوى. وشدّد القصّاص على عدم وجود تعاون كافٍ بين الدول الغنية والفقيرة في شأن التصحّر، إذ ترى الدول الغنية أن على الدول النامية إصلاح ما أفسدته من استهلاك جائر للأراضي، فيما تئن الدول الفقيرة تحت وطأة ضغوط زيادة السكان وحاجات الاقتصاد وغيرها. وقال: «لقد تنبأت منذ فترة طويلة بأن عدم إعطاء هذه القضية أولوية بوصفها قضية كوكبية، يؤدي إلى معاناتنا من تلوث شديد بالأتربة والغبار والجسيمات العالقة. لننظر إلى ما ورد في التقرير الرابع للجنة الأممالمتحدة لتغيّر المناخ، لجهة مشكلة الجسيمات العالقة، التي اعتبرها التقرير من أكبر مشكلات تلوث الهواء. في السياق عينه، توضح الصور الفضائية للصحاري هذه الحقيقة، كما تُظهر أن الأتربة والجسيمات العالقة إذا ما صعدت إلى طبقات الجو العليا، تؤثر في المناخ وترفع من درجة حرارة الأرض والغلاف الجوي. بمعنى آخر، يساهم التصحّر في صنع ظاهرة الاحتباس الحراري الكوارثية، وهي أشد ظواهر تغيّر المناخ إثارة للقلق. وبالتبادل، يفاقم الاحتباس الحراري من ظاهرة التصحّر وتدهور الأراضي القاحلة. وهكذا، ترتسم دائرة مغلقة مميتة، تتسبب في كوارث كبرى، لن تتوقف إلا إذا كُسرت هذه الدائرة القاتلة».