في حوار مطوّل مع «الحياة» على هامش «المؤتمر العاشر لاتفاقية الأممالمتحدة لمحاربة التصَحّر»، تحدّث لوك ناكادجا الأمين العام التنفيذي لهذه الاتفاقية عن إثبات الوجود بالنسبة الى الاتفاقية التي تبدو وكأنها تخص الفقراء وحدهم، في ضوء ما أسفر عنه «المؤتمر العاشر لاتفاقية الأممالمتحدة لمحاربة التصَحّر» الذي انعقد في كوريا الجنوبية أخيراً. ودعا إلى تعاون بين دول الجنوب النامية تقوده الدول العربية النفطية الواقعة في مناطق تتراوح بين كونها جافة وشديدة الجفاف. وحدّد هدف التعاون باستثمار الأراضي المتدهورة. استهل ناكادجا الحوار بالإشارة الى شعور عام ساد في المؤتمر المذكور، بأن اتفاقية مكافحة التصَحّر تعاني تمييزاً سلبياً في المعاملة مقارنة ببقية الاتفاقيات الأممية المتعلقة بالتغيير مناخياً. وأرجع هذا الشعور إلى طريقة التعامل مع الاتفاقية منذ إرسائها عام 1994. «لم يرد شركاء التنمية والدول المانحة أن يجري تمويل هذه الاتفاقية من الصندوق العالمي للبيئة. وتعين انتظار مؤتمر «القمة العالمية للتنمية المستدامة» (جوهانسبورغ 2002)، ليظهر إجماع حول تنفيذ هذه الاتفاقية. في السنة الماضية، خلال انعقاد «الجمعية العامة الرابعة للصندوق العالمي للبيئة»، أصبح هذا الصندوق أحد مصادر تمويل اتفاقية مكافحة التصَحّر. وبالنظر إلى موازنات الأمانات العامة للاتفاقيات الأممية الثلاث بشأن البيئة (الاتفاقيتان الأخريان تتعلقان بتغيير المناخ والتنوّع البيولوجي)، نجد أن موازنة اتفاقية مكافحة التصَحّر هي الأقل». وأشار ناكادجا إلى ان الموازنة الحاضرة هي 16 مليون دولار، ما يمثل زيادة تقل عن واحد في المئة عما كانته قبل سنتين. وقال: «في الواقع هذه موازنة في وضع انحداري، بما أن نسبة التضخم عالمياً تفوق 1 في المئة. لقد تعلّلت الدول الأعضاء بأن الأزمة الاقتصادية تمنعها من رصد مخصصات أعلى. كنا نأمل بزيادة نسبتها 9.6 في المئة، لتحسين تنفيذ الاتفافية علمياً وتقنياً، ودعم البرامج الوطنية. والآن علينا أن نقلص هذه النشاطات. الإرهاب ومؤشّرات التصحّر تلقّف ناكادجا باهتمام السؤال عن الخلاف بين دعاة التركيز على الجانب العلمي للاتفاقية، وهو المتصل بتحديد مؤشرات قياس آثار التصَحّر الذي يشار إليه تقنياً بمصطلح «الآلية العالمية» Global Mechanism، في مقابل المنادين بالاهتمام ب «الصندوق العالمي للبيئة». وأوضح أنه بفضل مؤشرات قياس آثار التصحّر علمياً، تقدّمت اتفاقية مكافحة التصَحّر على الاتفاقيتين الأخريين. وقال: «صارت لدينا بوابة على الانترنت تتيح للدول إنجاز تقاريرها الوطنية، ونعمل على إنشاء «بوابة البوابات»، وهو موقع إلكتروني للمعارف يتيح الحصول على معلومات دقيقة عن التصَحّر، لأن تقاسم المعارف يظل مفتاح نشر الممارسات الجيدة، وتنفيذ برامج مكافحة التصَحّر بشكل أكثر فاعلية. ولكن، تظل الحاجة مُلحّة لإيجاد الموارد المالية اللازمة لتطبيق هذه المعارف. هنا تأتي مشكلة «الآلية العالمية»، ففي المعنى الموجود في الاتفاقية، تشبه هذه الآلية نسبياً نظيرتها في اتفاقية تغيّر المناخ. في المقابل، نظر كثيرون إلى «الآلية العالمية» في اتفاقية مكافحة التصَحّر وكأنها شباك تمويل، في حين أنها وسيلة لتسهيل الوصول إلى التمويل! لقد حصلت قراءات خاطئة منذ البداية أدت إلى أخطاء مؤسساتية. واليوم، يمكن أن نشعر بالرضا لأن الأطراف المشاركة في المؤتمر العاشر اتفقت على تحسين الحوكمة، ما يعني استخداماً أفضل للموارد». وتحدث ناكادجا عن الموقف العملي ل «الصندوق العالمي للبيئة» من اتفاقية مكافحة التصحّر، ملاحظاً أن هذا الصندوق يخصّص للتنمية المستدامة للأراضي، ما لا يتعدى 430 مليون دولار، بحسب أرقام موازنته حتى عام 2014. وقال: «في المقابل، تفوق مخصصات الصندوق عينه المخصّصة لبرامج تغير المناخ أو التنوع البيولوجي هذا الرقم بأضعاف. بيد أنه عندما نكون بصدد تنفيذ الإدارة المستدامة للأراضي على مستوى السكان، بالنسبة الى مكافحة الفقر والأمن الغذائي أيضاً، فإننا نكون في الوقت نفسه بصدد تطبيق الاتفاقيتين الأخريين. لكن، يظن البعض أنه كان ينبغي تخصيص موازنة متساوية للاتفاقيات الثلاث، فتظهر مُطالبة، خصوصاً من دول الجنوب، ببذل المزيد لحماية التربة من التصحّر. ربما يكون أجدى المطالبة بدعم «الآلية العالمية»، أو أن يصبح «الصندوق العالمي للبيئة» هو المصدر لتمويل اتفاقية مكافحة التصَحّر، بدل ان يكون أحد طرق تمويلها. كثيراً ما يردد الصندوق بأنه ليس إلا أحد آليات تمويل الاتفاقية، لكن أين هي الميكانيزمات الأخرى؟ إن «الآلية العالمية» ليست آلية تمويل في اتفاقية مكافحة التصَحّر، بل هي آلية للوصول إلى المعلومات ودعم الدول العضو لإيجاد التمويل». وغاص ناكادجا في جذور السياق الذي أدى الى جعل تمويل اتفاقية مكافحة التصَحّر من قبل «الصندوق العالمي للبيئة»، أقل من تمويل اتفاقيتي تغيّر المناخ والتنوع البيولوجي. وعاد بالذاكرة إلى «مؤتمر الأممالمتحدة حول مكافحة التصَحّر» (نيويورك، 2010)، حين قال الوزير الألماني لشؤون التعاون الدولي، ما يلي: «لقد أخطأنا بشأن تداعيات التصَحّر في مؤتمر «قمة الأرض» Earth Summit التي استضافتها مدينة «ريو» في البرازيل (1992)، وبشأن منافع تطبيق اتفاقية مكافحة التصَحّر. كنا نفكر بأن التصَحّر لا يعدو أن يكون ظاهرة محلية، وأن تطبيقها لن يؤتي أكله إلا ضمن الحدود المحلية. اليوم نرى ونفهم بأن لهذه الاتفاقية منافع دولية. إن هذه الاتفاقية عالمية، وإذا كانت كذلك، فينبغي أن يستفيد الجميع من منافعها». وبتأثّر، أشار ناكادجا الى أن كلمات الوزير الألماني ذهبت سدى. وقال: «يبدو أن الجميع لم يفهم بعد. صحيح أن السكان المحليين يتأثرون مباشرة بتدهور وضعية الأراضي في المناطق القاحلة، إذ يستفحل فقرهم ويتهدد أمنهم غذائياً. لكن هذا الوضع يهدّد التنوع البيولوجي، كما يؤثّر على المناخ، لأن الأراضي المتدهورة تبعث مجموعة من غازات الكربون، ما يفاقم تلوث الغلاف الجوي ويزيد في تدهور المناخ. واستطراداً، يساهم تدهور المناخ في جفاف الأراضي، ما يعني وجود دائرة مغلقة بين الأمور المتشابكة. يجب أن نفهم أن تطبيق أي اتفاقية من الاتفاقيات الثلاث يؤثر على الأخرى». ولم يتردد ناكادجا في إعطاء رأي حاسم عن العلاقة بين الإرهاب وظاهرة التصحّر التي توّلد مشاكل مثل مهاجري المناخ وفقرائه، الذين قد يكونون وقوداً لحركات متطرفة. ومرّة اخرى، استعاد سياقات مؤتمر نيويورك، ليستحضر مقولة مدير «الوكالة الأميركية للتنمية» USAID بأن التصَحّر يمثل «تحدياً أساسياً للأمن القومي للولايات المتحدة». وأشار ناكادجا إلى أن الوزير الأميركي لم ينفرد بالذهاب الى هذه الوجهة، فهناك دراسات تثبت هذا المعطى. وأضاف: «في 2007، بيّنت خريطة عن الأزمات العنيفة أن 80 في المئة من النزاعات المسلحة التي أودت بحياة مئات الأشخاص، وقعت في الأراضي القاحلة. ليس صدفة ما يقع في السودان، وما نراه من نزاعات في شمال نيجيريا وغيرها. فمن أميركا اللاتينية إلى آسيا، نلاحظ بوضوح تمركز النزاعات في المناطق القاحلة، ما يشير إلى أسباب مشتركة، بينها مثل معدلات نمو السكان، وشحّ المياه، والضغط على مصادر المياه، وتدهور الأراضي باطراد، ما يجعل المصادر الحيوية كالأراضي الخصبة والمياه أكثر ندرة، وبالتالي، تنشب النزاعات حول هذه المصادر». وفي هذا السياق، اعتبر ناكادجا أن الهجرة هي سقف التكيف الأخير، قائلاً: «بعد تدهور الأراضي وفقدان الناس وسائل عيشهم، يرحل الناس إلى أقرب مدينة، وبعدها يجتازون المحيطات. وقد أثبت لنا التاريخ أن أسلوب تطويق القلعة بجدار لم يفلح أبداً في حماية رخائها وأمنها. لهذا، فالدول النامية المتضررة ملزمة بوضع خطط وطنية لمكافحة التصَحّر وإدماجها ضمن خططها لمكافحة الفقر والتنمية، في حين أن الدول المتقدمة ملزمة ضمن هذه الاتفاقية بمساعدة الدول النامية المتضررة بطريق نقل التكنولوجيا وتقديم الدعم المالي لتمكينها من تطبيق برنامج مكافحة التصَحّر، إلا أن الطرفين معاً لم يفيا بالتزاماتهما». ...والغابات ترسم سيناريو كارثياً للمناخ «نحن اليوم 7 بلايين نسمة، وبحلول 2050 يبلغ عدد سكان الأرض 9 بلايين. حينئذ، يحتاج العالم إلى 120 مليون هكتار من الأراضي الجديدة الصالحة للزراعة لإطعام البلايين التسعة، وفق منظمة الأغذية والزراعة. أين نعثر على هذه الأراضي في البلدان النامية؟ سكان هذه البلدان لن يكون أمامهم غير خيارين: إما القضاء على الغابات أو استعادة الأراضي المتدهورة». بهذه الكلمات القوية، تحدّث لوك ناكادجا في «المؤتمر العاشر لإتفاقية الأممالمتحدة لمحاربة التصَحّر»، وهو الأمين العام التنفيذي لهذه الإتفاقية. وأضاف: «إذا اضطروا لإجتثاث الغابات، تكون الكلفة كارثية على نحو استثنائي، إذ تقفز حال الإضطراب في المناخ الى سيناريو رهيب، يتضمن غرق دول عدّة، وزوال أحواض الأنهار الكبرى، وهجرات بالملايين للسكان، وتقاتل بشع ودموي على الموارد. لن يوفر هذا الوضع أحداً. من مصلحة الجميع، وقف تدهور الأراضي. لذا، أدعو المجتمع الدولي الى اتخاذ القرار وتحديد أهداف واضحة يمكن قياسها كميّاً، وبحث هدف التنمية المستدامة في المديين القريب والبعيد، كي يتاح لنا الوصول بتدهور الأراضي إلى نسبة الصفر. وكي نصل الى هذا الملاذ الإنقاذي، يجب أن نلتزم قدر الإمكان تجنب ما يؤدي إلى تدهور الأراضي، ونلزم أنفسنا باستعادة ما يمكن من الأراضي المتدهورة في البلاد التي تعاني هذه الظاهرة. يستلزم هذا الأمر ما هو أبعد من الاقتناع والالتزام بتقديم مساعدات مالية. إذ يقتضي إستثماراً فيه». وتناول ناكادجا إشكالية تتعلق بميل المانحين لاعتبار ما يقدمونه في مكافحة التصحّر مساعدة مالية وليس استثماراً. وقال: «يشكل هذا الأمر استثماراً مُجدياً. يخطئ المانحون إذا ظنّوا أنهم إزاء عمل خيري. لنأخذ ما يجري في القرن الإفريقي مثالاً. كان معلوماً منذ نهاية السنة الفائتة أن الجفاف هناك سيكون أكثر قسوة، أو بالأحرى استثنائياً. ومع ذلك، فضلت الدول المانحة لعب دور الإطفائي بدل استنفار الإجراءات المتوافرة ميدانياً، لخفض تداعيات الجفاف على السكان... إن تدخلاً من هذا النوع الأخير، يكلّف أقل من تقديم مساعدات في ظروف طارئة. من المهم أن تعي الدول المتقدمة أن مساعدة الدول النامية المتضررة على تطبيق إتفاقية مكافحة التصَحّر ليست صدقة ولا فعلاً خيرياً، بل التزام بما تعاقدت عليه، ولمصلحتها أيضاً. إذا لم تستثمر هذه الدول هناك، فستصل إليها حتماً تداعيات التصَحّر حاملة مسميات اخرى مثل الهجرة وانعدام الأمن الغذائي، وعدم الاستقرار، وانتشار الإضطرابات السياسية وتهديد السلام العالمي. إذاً، هذا استثمار في محله يقوم على التعاون بين الطرفين للحفاظ على المصادر المشتركة، أي الأراضي الخصبة، وهي مصادر محدودة». عند هذه النقطة، بات مُلحاً طرح سؤال محدّد على ناكادجا عن المانحين العرب، وطلب تقويمه لمساهمة الدول العربية الغنية بالنفط بالنسبة الى الاستثمار في الأراضي المتدهورة. وجاءت إجابته على النحو التالي: «إن إتفاقية مكافحة التصَحّر لا تُلزم هذه الدول بتقديم المساعدة والاستثمار. في المقابل، البلدان المتضررة من التصَحّر وتلك التي تعاني مخاطر فقدان الأمن الغذائي هي الملزمة. صحيح أن لدى الدول الغنية في هذه المناطق إمكانات كافية لشراء المواد الزراعية من الأسواق، لكن قد يحصل أنك تملك المال لكن لا تملك السبيل لاقتناء المواد المتاحة. أتوقع أن تنشب النزاعات المقبلة حول المياه والوصول إلى المنتجات الزراعية. وربما نجد أنفسنا يوماً ما في سياقات تضع فيها الدول المنتجة حظراً على موادها الزراعية. إنه ليس تهديداً كامناً، بل واقع متحقّق! انظروا ما وقع في استراليا في 2008 عندما ضرب الجفاف. لقد أدى تخوّف الأسواق من نقص التموين، إلى مضاربات وأسعار صاروخية أثّرت على الجميع وفي كل مكان. وثمة أمر ثان. لقد أرادت الأسواق تأمين الإنتاج المستقبلي من طريق شراء أراض في الخارج. وفي 2009، جرى شراء أكثر من 90 مليون هكتار، ما يفوق مساحة فرنسا بكاملها. تمّت معظم هذه الصفقات في إفريقيا، في دول مثل مالي والسودان. لماذا؟ لأن المشترين يعلمون أنها أراض قابلة للتأهيل واستعادة الخصوبة. وقد كانت الدول العربية ضمن أكثر الدول التي اشترت أراضي في افريقيا. إذاً، لأن الدول العربية الغنية ناشئة، وتدرك المخاطر المرتبطة بالتصَحّر لوقوعها جغرافيا في مناطق جافة وأحياناً شديدة الجفاف، فقد ترى أنه من باب التضامن والتعاون بين دول الجنوب، زيادة الاستثمار في مكافحة التصَحّر، لكون 90 في المئة من البلدان المتضررة هي دول نامية».