تهيمن على الساحة السياسية المصرية حال من الجدال والصراع المحتدم بين رؤيتين لسيناريو عملية التحول الديموقراطي بشقيها الدستوري والسياسي. ترى أولاهما ضرورة وضع دستور جديد للبلاد قبل إجراء الانتخابات البرلمانية استناداً إلى كون عملية الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي تمت في آذار (مارس) الماضي باطلة نظراً لأن دستور 1971 سقط بتنحي مبارك، ومن ثم لا يجوز الاستفتاء على دستور ساقط، إضافة إلى أن الانتخابات البرلمانية لا يمكن أن تتم في ظل عدم وجود دستور جديد يحدد طبيعة ملامح النظام السياسي للدولة ويحكم نوعية توجهاتها ويضبط أداءها. كما أن القوى الثورية وغالبية التيارات الليبرالية والماركسية والقومية ما زالت غير قادرة على النزول إلى معترك الانتخابات البرلمانية، ومن ثم فهي تحتاج بعض الوقت كي تتسنى لها فرصة بناء قواعدها الجماهيرية والمنافسة بقوة على مقاعد البرلمان في ظل معركة انتخابية شرسة ستخوضها في مواجهة التيار الإسلامي المتجذر في الشارع السياسي المصري. أما الثانية فترى أن إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها بات ضرورة ملحّة، خصوصاً أن غالبية المصريين التي صوتت ب «نعم» في الاستفتاء الذي تم على التعديلات الدستورية رسمت خريطة طريق لمستقبل مصر السياسي لا يمكن التراجع في أي خطوة من خطواتها، بخاصة في ظل تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية وعدم موضوعية أية رؤى دستورية تعتقد بإمكانية اختيار «لجنة المئة» التي ستضع الدستور المصري بالاقتراع الجماهيري المباشر، ما يعني أن إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً هو الطريق الممكن والوحيد لوضع دستور البلاد الجديد. إلا أن ملاحظتي الأساسية في شأن تلك المعركة تتمثل في أن إفضاءها الى انتصار أحد طرفيها وهزيمة الآخر سيشكل بكل تأكيد انتكاسة حقيقية لعملية التحول الديموقراطي. فتطبيق السيناريو الأول على أرض الواقع يعني إلغاء نتيجة الاستفتاء على الدستور، ما يعني كسراً لإرادة الجماهير التي شاركت بإقبال منقطع النظير في تلك العملية التي تعد أول استحقاق انتخابي ديموقراطي بعد الثورة المصرية. فإذا كانت أعداد المشاركين في هذا الاستفتاء لم تتجاوز 18 مليون ناخب من أصل 45 مليوناً لهم الحق في التصويت، فإن هذا العدد مرشح للتناقص مستقبلاً إذا ما ألغيت نتائج الاستفتاء، ما يعني أن أعداد المشاركين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة لن تتجاوز نسبة 25 في المئة ممن لهم حق الانتخاب، وهي نسبة مفزعة في أي نظام ديموقراطي، إذ إن الغالبية الفعلية وقتها ستتجاوز بقليل نسبة 13 في المئة ممن لهم حق الاقتراع، وهي نسبة لا تعبر بأي حال من الأحوال عن إجماع حقيقي بين صفوف الجماهير. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تكثيف القوى الداعية الى وضع الدستور أولاً لضغوطها على المجلس العسكري من أجل تحقيق هذا المطلب قبل إجراء الانتخابات البرلمانية وتجاهلها فكرة النزول إلى الشارع والالتحام بالجماهير سيؤدي إلى زيادة هيمنة التيار الإسلامي الموجود بقوة في الشارع على العملية السياسية، خصوصاً أنه شرع بالفعل في عقد التحالفات استعداداً لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، ما سيعمق من أزمة تلك التيارات على المستوى الموضوعي. أما في حال تطبيق السيناريو الثاني بإجراء الانتخابات أولاً وتجاهل مطالب الداعين الى تأجيلها لحين وضع الدستور الجديد، فإن هذا التجاهل سيدفع تلك القوى الى اتخاذ مواقف راديكالية بدأت تلوح بها من الآن كمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة أو العودة من جديد الى الاعتصام في «ميدان التحرير»، ما سيفتح الباب أمام انقسام سياسي عميق داخل أوساط النخبة السياسية المصرية يمكن أن يجهض كل الجهود التي تروم إتمام عملية التحول الديموقراطي. فنحن إذاً وبكل تأكيد في حاجة إلى منطق الفيلسوف الألماني هيغل الذي قال في تفسيره لظواهر التاريخ إن الصراع بين متناقضين يفضي إلى بروز مركب يمثل صيغة وسطاً تتجاوز كليهما، ومن ثم فإن المطلب الأساس الآن لإتمام عملية التحول الديموقراطي من دون تعثر هو بروز صيغة وسط تجمع هاتين الرؤيتين متمثلة في ضرورة الاعتراف بنتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية من جانب القوى الداعية الى وضع الدستور قبل إجراء الانتخابات البرلمانية من ناحية وقيام المجلس العسكري في المقابل بإضافة مادة إلى الإعلان الدستوري الصادر في أعقاب ذلك الاستفتاء. ويفترض بهذه المادة ان تنظم عملية اختيار «لجنة المئة» التي ستضع الدستور محدداً فيها الشروط الواجب توافرها في هؤلاء الأعضاء ونسب ممثليها سواء من الفقهاء الدستوريين أو من النخب والتيارات السياسية أو من القوى الاجتماعية والنقابية بما يضمن تمثيل طوائف وتيارات المجتمع كافة ويضمن كذلك عدم انفراد الغالبية في البرلمان المقبل بوضع دستور البلاد الجديد الذي يعد ملكاً للأمة المصرية بكل فئاتها وتياراتها وطوائفها. * كاتب مصري