تستعد القوى المسيحية العراقية لخوض واحدة من أهم المعارك الانتخابية على الساحة العراقية، وخارطتها مثقلة بانقسامات يلفّها التنافس «الفئوي» ويغذّيها صراع «القوى الكبرى» لدى الغالبية المسلمة، تضاف إليها هواجس من انعكاسات تدخُّل مراجع كنسية في السياسة قد تزيد من هشاشة البيت المسيحي المهدّد باستمرار بنزيف الهجرة. وتتنافس في الانتخابات البرلمانية المقررة في 12 أيار (مايو) المقبل، نحو تسع قوى مسيحية على خمسة مقاعد مخصصة وفق نظام «كوتا» الأقليات في القانون الانتخابي، ضمن ائتلافين وقوائم منفردة في خمس محافظات: بغداد، نينوى، كركوك، أربيل، ودهوك. المتنافسون هم ائتلاف «الكلدان» ويضم «المجلس القومي الكلداني»، و»الاتحاد الديموقراطي الكلداني»، وائتلاف «الرافدين» بين «الحركة الديموقراطية الآشورية» بزعامة النائب يونادم كنا، و»الحزب الوطني الآشوري»، فيما تخوض أربعة أحزاب المنافسة بقوائم منفردة هي: «المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري» و»حركة تجمع السريان» و»أبناء النهرين» و»حركة بابيلون» المدعومة من قوات «الحشد الشعبي» الشيعية، فضلاً عن ترشّح أفراد ضمن قوائم من خارج الخريطة الانتخابية المسيحية التقليدية. وتخللت التفاهمات حول الترشح في قوائم بعض القوى انقسامات داخلية وعقبات، وتحدثت وسائل إعلام مسيحية عن خلافات حول التسلسل الانتخابي في القوائم، بعد تعثّر محاولات تشكيل ائتلاف موحد يضم غالبية القوى، وسط خشية من استحواذ القوى الكبيرة، كردية وشيعية، على مقاعد الكوتا. وذكر موقع «عنكاوا كوم»، المتخصص في تغطية النشاطات السياسية والثقافية للمجتمعات المسيحية، أن قيادياً في حزب «المجلس الشعبي» المقرب من الحزب «الديموقراطي» بزعامة مسعود بارزاني، كان يحتل سابقاً منصباً إدارياً في الإقليم، «ممتعض جداً من سياسات المجلس، وهو حالياً شبه مستقيل»، كما أشار إلى أن حزب «المجلس القومي الكلداني» اضطر للتسجيل في المفوضية الانتخابية باسم سكرتير جديد بعد استبعاد زعيمه السابق سمير عزو، بسبب ورود اسمه ضمن قوائم «اجتثاث البعث». واللافت ورود اسم الوزير السابق في الحكومة الاتحادية سركون لازار، والذي كان منتمياً إلى «الحركة الآشورية»، ضمن قائمة «دولة القانون» بزعامة نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي، ما عدّه البعض خروجاً عن العرف الانتخابي لدى القوى المسيحية ما بعد سقوط النظام السابق. وسبق أن قرر أربعة قادة في الحركة التخلّي عن مسؤولياتهم، إثر الخلافات على رئاسة قائمة «الرافدين»، وأوضح آشور سركون، وهو أحد القادة الأربعة، أسباب القرار، أنه «يأتي في صميم السياقات التنظيمية الديموقراطية في الحركة لوجود اختلافات في وجهات النظر، ولا يعد تهرباً من المسؤولية، وهو أمر صحي في الأحزاب الفاعلة عند عدم القناعة ببعض القرارات وتبعاتها»، وأكد «استمرار نشاطه القومي في الهيكل التنظيمي». وتعاني القوى من تقاطعات في منطقة سهل نينوى، التي تعد أحد مراكز الثقل السكاني للمسيحيين الذين انخفضت أعدادهم مع تزايد حالات الهجرة وعمليات النزوح في أعقاب احتلالها من تنظيم «داعش»، بينما يستمر الصراع على النفوذ في هذه المنطقة بين القوى الكردية من جهة، وأخرى محسوبة على الأطراف في الجانب الاتحادي، في ظل وجود فصائل مسلحة مدعومة من الطرفين. وبخلاف الدورات الانتخابية السابقة، فإن تصريحات لزعامات دينية أظهرت للمرة الأولى دعماً كنسياً لقوى سياسية محددة، بعد فشل محاولاتها توحيد الأطراف السياسية في ائتلاف موحد، ولم يخف زعيم البطريركية «الكلدانية» لويس ساكو، دعمه ضمنياً لائتلاف يمثل الكلدان «أسوة بالآخرين الذين هم أقل منا». وأقر بحالة الانقسام القائمة بين القوى المسيحية، قائلا أن «الجميع منقسم أيضاً، السنة والشيعة والأكراد»، واستدرك: «لكن هذا لا يعني أننا ندعم قائمة واحدة دون الآخرين، ككنيسة لا نريد ربط العملية الانتخابية في تفضيل طرف على آخر، هذا يحدد قرار الناخب ليعطي صوته لمن يراه الأنسب بغض النظر عن انتمائه الحزبي، ونحن أيضاً ندعم الائتلاف الكلداني ونتمنى له التوفيق». وكان بيان للبطريركية دعا المسيحيين الى المشاركة «بكثافة» في التصويت بعد تحديث سجلاتهم، وانتخاب «أشخاص مجربين ومحبين لبلدهم ونزيهين ومقتدرين على تحمل المسؤولية بأمانة، وتجنب التصويت لأشخاص لا خبرة لهم، لأشخاص انتهازيين ممن لهم ولاءات لا تخدم الخير العام»، إلا أن بعض القوى اعتبر هذه المواقف تخلياً عن السمة التي تمتعت بها الكنيسة في «النأي عن التدخل في النشاط السياسي». وتشير إحصاءات غير رسمية إلى أن اجتياح تنظيم «داعش» محافظة نينوى منتصف عام 2014، أدى إلى تناقص كبير في أعداد المسيحيين بسبب النزوح والهجرة، ليصل إلى نحو 400 ألف فرد فقط بعد أن كان يتجاوز المليون ونصف المليون مطلع ثمانينات القرن الماضي، وما ساهم في شرذمة الطوائف المسيحية فقدانها مرجعية أو قيادة سياسية متجانسة، واستمرار الانقسامات بين قواها، رغم الإقرار بتبعاتها السلبية على ما تبقى من الوجود المسيحي في العراق وإقليم كردستان. واستطلعت «الحياة» مواقف سياسيين في أسباب فشل القوى المسيحية في تشكيل ائتلاف موحد، ورأى النائب في برلمان الإقليم عن كتلة «أبناء النهرين» سرود مقدسي، أن «ذلك يعود الى اختلاف المرجعيات التي يرتبط بها البعض من هذه الأحزاب من داخل المجتمع الكلدو - آشوري السرياني مع غيرها من الأحزاب المتنفذة. وإذا وجدت أحزاب تمتلك مساحة من الحرية والعمل بإرادتها وقرارها، فإن تأثرها بثقافة المنطقة، وإصرارها لاستنساخ تجربة الآخرين في ممارسة الديموقراطية بقشورها فقط والجنوح نحو الانفرادية، لا يوفر أو يؤسس أرضية جيدة للالتقاء عند نقاط مشتركة». وعن الهواجس من انعكاس مواقف زعامات دينية في توليد صراع قومي على حساب المشتركات، قال مقدسي: «مبدئياً، لا أحد يتمنى أن تتدخل الكنيسة (أي فرع من كنائسنا) في القضايا الحزبية والسياسية البحتة، خصوصاً أن تكون طرفاً مع إحدى القوائم أو الائتلافات الانتخابية». وزاد: «لا نتمنى أن تسير لا كنيستنا الكلدانية ولا أي فرع آخر من كنائسنا، أبعد بهذا الاتجاه، ونثق بإدراكها أهمية هذا الفصل وهذه المهمة، لأن بقاءنا كمكون اثني واحد له أولوية قصوى، على الرغم من تفرع كنائسنا وتعدد تسمياتنا والتي لا تعبر في النهاية سوى عن غنى تراثنا وتاريخنا العميق وعمق هويتنا في هذه الأرض، نجد من الضروري جداً أن تبقى الكنائس بعيدة وبمسافة واحدة عن كل القوائم الانتخابية، خصوصاً أن كل القوائم تحوي مرشحين ينتمون الى كل الكنائس، ونتمنى أن تلعب الكنيسة دورها في تشجيع الناس للمشاركة في العملية الانتخابية والتصويت للقوائم». وقال زعيم الحزب «الوطني الآشوري» عمانوئيل خوشابا، إن «غالبية القوى رفضت التسمية الدينية، ولم نلتمس الجدية المطلوبة في المبادرة، وفي الأخير لم يخف سيدنا البطريرك دعمه لقائمة محددة، نحن نؤمن بأننا شعب واحد وإن اختلفت التسميات، لكن لا ننسى أن هناك أيضاً تدخلات من الأحزاب الكبرى الكردية والشيعية للاستحواذ على مقاعد الكوتا، وهذه أسباب جوهرية، إلى جانب الاختلافات في وجهات النظر بين القوى نفسها». وأضاف خوشابا: «نحن نطرح المفهوم من دون الخضوع للتبعية وبمؤشرات وطنية حقيقية، وأن تحترمني كشريك، واقترحنا على الأممالمتحدة أن يكون التصويت على مقاعد الكوتا تصويتاً خاصاً، لأننا تحت إرادة القوى الكبرى لسهولة الحصول عليها». وإزاء وجود دور سياسي لزعامات دينية، لفت الى أن «محاولة تصنيع قومية جديدة في حالة معينة لن تخدم، والتجارب الانتخابية السابقة أظهرت انتصار الصوت الوحدوي، وأن تأخذ الكنيسة اليوم موقفاً باتجاه طرف محدد، لهو مؤسف، في حين يجب أن تكون على مسافة واحدة من الجميع، لأنه في النهاية ستؤدي كل المخرجات إلى الكنيسة والتي مفهومها يجب أن يكون جامعاً، وكان في إمكاننا بدلاً من خوض هذا الصراع، أن نتصارع على حقوقنا المهمشة وما تعرضنا له من استهداف منظم، فهناك تناقض بين دعوة رجال الدين إلى الدخول في المعترك السياسي وفي الوقت نفسه نطالب بدولة مدنية علمانية». الناشط السياسي كلدو رمزي، قال في رد على أسباب تفتت الخريطة الانتخابية المسيحية: «للأسف بعض القوى لها مرجعيات سياسية لدى الأحزاب الكبيرة، وأخرى ربما تكون صنيعة من قبلها، أو مرتبطة بأجندات الأحزاب المتنفذة سواء الكردية أو الشيعية أو السنية، وتقاطع المصالح بين هذه القوى وغياب رؤية مشتركة موحدة، خصوصاً منذ مؤتمر بروكسيل، وتبين ارتباط بعضها بأجندات الحزب الديموقراطي الكردستاني». وأضاف: «كنا نأمل بتحقيق ائتلاف قوي قادر على تخطي محاولات الهيمنة من القوى الكبرى، لكن من المعيب أن تكون الكيانات الكلدانية السريانية الآشورية المنافسة على خمسة مقاعد، ربما أكثر من الكيانات الكردية التي تنافس على أكثر من خمسين مقعداً، وهذا دليل على محاولات الحيتان الكبيرة للاستحواذ على مقاعد الكوتا».