الفيلم الذي يبدأ من جسد شاب نائم يتنفس بانتظام، كأنه غارق في سبات عميق وكأن هناك عيوناً تتأمل تفاصيله، ينتهي برقصة امرأة خمسينية دبت فيها الحياة مجدداً. وما بين البداية والختام كانت هناك رحلة طويلة للمخرجة الرومانية أدينا بنتيلي التي كتبت السيناريو وقامت بالمونتاج أيضاً بنفسها، مثلما شاركت بحصة في الإنتاج مع فريق من خمس دول هي بلغاريا والتشيك، وفرنسا، وألمانيا، رومانيا - استغرقت تسع سنوات من البحث والتنقيب والعمل على الفيلم حتى تعبر شخصياته رحلة آلامها من الاكتئاب والروح السوداوية المشبعة بالحزن العميق. الحديث عن فيلم «لا تلمسني» - touch me not - الذي اقتنص جائزة الدب الذهبي في البرليناله الثامنة والستين، مثلما نال أيضاً جائزة أفضل أول عمل روائي لمخرجته، بينما شهد عرضه الصحافي الأول انقساماً حاداً بين النقاد، حيث تركه بعد وقت قليل من بدئه أكثر من نصف الصحافيين بسبب مشاهد العري، لكن بعد مرور ساعتين كاملتين ومع الرقصة الأخيرة المتفجرة بالحيوية ونبض الحياة، ارتفع التصفيق الحاد المتواصل لدقائق عدة في القاعة الكبيرة. هو فيلم عميق - يمزج بين الوثائقي والروائي، بين الواقع والخيال - عن أهمية العلاقات الحميمية، عن العجز عن إقامتها في شكل طبيعي، بسبب أفكار وصدمات وميراث ثقيل، أثناء ذلك تصطحبنا المخرجة في رحلة تحرر الجسد والروح والعقل، فالخوف المخبأ خلفها تكشفه كلمات وتصرفات عدة - بخاصة عند النساء من دون الرجال في الفيلم - في مقدمهن المخرجة التي تبدو كأنها تطرح تساؤلاً لا ندري على وجه الدقة إلى من كانت توجهه، إذ يبدو الأمر ملتبساً، حتى أننا لا نعرف هل توجهه إلى رجل أم امرأة؛ لكنه بالتأكيد لم يكن موجهاً إلى بطلتها، إذ تقول: «لماذا لم تسألني عن موضوع هذا الفيلم؟ ولماذا لم أخبرك أبداً عن موضوعه؟ هل كان صمتنا، نحن الاثنين، اتفاقاً متبادلاً مريحاً لكل منا، لئلا نتحدث عنه؟». ثم قرب نهاية الفيلم تجيب المخرجة أيضاً: «خوفي من أن أفقدك، وخوفاً من أن تتحطم صورتي لديك، كانا السبب الذي منعني من أن أخبرك شيئاً عن موضوع هذا الفيلم؟». صحيح أن الفيلم بفكرته القوية، والتي من أجل التعبير عنها كان ينهض على التعري الكامل، بمعناه المادي والأدبي، تعرية الجسد والنفس والعقل معاً، وكشف العلاقة الوثيقة بينهم، لكنه ومع ذلك ليس فيلماً إباحياً، فهو ليس عن العلاقات الحميمية فقط، لكنه أيضاً عن التحرر من الإعاقة التي تحجب عنا الاستمتاع بالحياة، وتحطيم أفكار مشوهة حول مقاييس الجمال، وذلك عبر أبطاله المتنوعين، مع ذلك هناك بطلة رئيسية هي لورا، امرأة خمسينية، عندها عقدة نفسية تمنعها من ممارسة العلاقات في شكل سوي، إنها ترفض أن يقترب منها الرجال، أو أن يلمسها أحد، لا بد من أن تكون ثمة مسافة بينها وبين الآخر، فالاقتراب منها يزعجها بطريقة مؤلمة، لذلك تبحث عن رجال من بائعي الهوى وتستأجرهم ليقوموا باستعراض أجسامهم العارية تماماً أمامها، وتتأملهم من بعد أيضاً. برقة شديدة، وبتقشف واضح في ذلك الجزء المربك في ما يخص علاقة البطلة بوالدها، ربما فقط ثلاثة مشاهد صامتة متفرقة على مدار الفيلم، وعبر جملة مقتضبة قد تبدو عابرة، لكنها قصدية وخطيرة، ومن دون حكي أي تفاصيل، يشي الفيلم بتعرض لورا للاغتصاب على يد والدها، فهناك نظرة متبادلة بينهما في المستشفى الراقد فيه بجسده العاجز، بعد ذلك نشاهد لورا تستحم وتنظف جسدها بكمية كبيرة من الصابون، كأنها تغتسل أو بالأحرى تطهر جسدها من تلك النظرة. إنخا هنا تحكي بهاتين اللقطتين تاريخاً مؤلماً، تاريخاً ترك بصمته الجارحة على روح البطلة، فأصبحت هذا الكائن المتوتر الباحث والمنقب في شكل جحيمي ليس عن السعادة، ولكن عن التحرر والخلاص من توترها ورغبة في تحقيق السكينة الداخلية، لكن من دون فائدة حتى صارت امرأة خمسينية لا تزال تمارس طقسها في شراء متعة مبتورة غير سوية، بل مشوهة تؤكدها المؤثرات الصوتية والموسيقى المميزة المصاحبة عدداً من المشاهد التي تشي بالشجن والحزن العميق، وتقول كلماتها بحزن رقيق أشياء عن الاكتئاب والسوداوية. لورا هي التي تقود المشاهد إلى بقية الشخصيات طوال الفيلم الذي يراهم عبر عينيها، فهي تتلصص عليهم حيناً، أو تطارد أحدهم حيناً آخر، أو تحكي مع المخرجة في بعض الأحيان، في نقاش كاشف يتبادلان فيه المواقع أحياناً، أو يكونان فيه على قدم المساواة في حين آخر، إذ يجلسان على الأريكة ذاتها، أو نراها تتلقى العلاج على يد ممارس اليوغا، أو تمارس طقسها المشوه عن العلاقات الذي ينهض على «فعل اللاشيء»، وخلال ذلك نتعرف إلى توماس الأصلع الذي سقط شعره بالكامل في طفولته، والذي تحجب عيناه رؤية ما في داخله كأن هناك قناعاً أو غطاء ينسدل على أعماقه، وهو لاحقاً يفسر ذلك بأنه ربما من الطفولة، إذ كان لديه إحساس دائم بأن أمه تعاني معه، وأنها غير سعيدة، على رغم أنها كانت تبتسم دائماً، لكنه كان يشعر بأنها تدعي السعادة لئلا تجرحه، لذلك ربما تدرب في اللاوعي على وضع غطاء محكم على ذاته، ثم ينظر باتجاه الكاميرا بنظرة ثاقبة ثابتة في عيوننا كأنه يُسائلنا: «ألا تضعون الأقنعة أنتم أيضاً؟». واحد من أقوى شخصيات الفيلم هو الشاب كريستيان المصاب بضمور العضلات فلا يتحكم في لعابه، وفكه مشوه، كما أنه مصاب بالشلل الرباعي، لكنه يُفاجئنا بشخصيته المتفتحة، القوية، الرافضة الاستسلام لفكرة الإعاقة، على رغم أن إعاقته شديدة القسوة بالفعل، لدرجة أنه يقول: «أنه لفترة من حياته كان يشعر بأنه عقل هائم من دون جسد، إلى أن بدأ يشعر برغباته الجنسية، وهنا فقط أدرك أنه يمتلك جسداً». إنه أحد ذوي الحاجات الخاصة الذي نسى تماماً الإعاقة الشديدة القاسية التي تلازمه منذ مولده وتستلزم أن يحمله آخرون ويفعلون له كل شيء، نسي أو تناسى فمه الذي يسيل من أطرافه اللعاب أثناء الحديث، وأخذ يحكي عن حبه وإعجابه بالعيون الجميلة التي ينقل من خلالها أحاسيسه ويوطد بها علاقته بالآخر، وشعره الطويل الذي يمنحه الإحساس بالحرية، وذكورته التي يتفاخر بها، وتجعله سعيداً في علاقته بزوجته. رافضاً أن يصفه الناس بالمعوق قائلاً: «أنا أستمتع بحياتي، ووافقت على تصويري هكذا والحديث المنفتح في هذا الشكل حتى يستفيد الناس من تجربتي، من كيفية التعامل مع أجسامهم، وإعادة التعرف إليها، والتصالح معها، أفعل ذلك حتى تتسع الآفاق ويتقبل الناس بعضهم بعضاً... فالحميمية هدية لنا، والحياة رحلة لاكتشاف هذه الحميمية». «عندما نفتح الأبواب، نكتشف وجود مستويات عدة من الحميمية، لكن اللاوعي بكل ما ترسخ فيه وما يحمله من ميراث يلعب دوراً وراء رفض هذه العلاقات»، هكذا يقول المعالج الذي يحضّ لورا على الغضب، على أن تصرخ بقوة، لإنقاذ نفسها. وهنا تلتقط المخرجة هذه الفكرة عن فتح الأبواب لتصورها فعلياً كدلالة رمزية، ففي المستشفى أثناء خروجها من عند والدها، متوترة غاضبة، تحاول لورا فتح الباب الخارجي بعنف مرات عدة، لكنه لا يفتح، ما جعلنا كمشاهدين نتخيل أنها تفتح الباب الخطأ، ثم فجأة يُفتح الباب وتنطلق البطلة. بعد ذلك، تتكرر اللقطة لكن الباب في كل المرات التالية يفتح بسهولة، وتنطلق البطلة متحررة، والكاميرا تلاحقها في انطلاق كأنها تتنفس الهواء المنعش إلى أن تكمل رحلتها وتنجح في العلاج، فتوافق للمرة الأولى على أن تتخلص من خوفها وأن تنزع عنها حُجبها، قبل أن ترقص رقصتها المبهجة المفعمة بنبض الحياة وقوتها في نهاية الفيلم.