مات فالح عبد الجبار مساء أول من أمس في بيروت لا في بغداد ولا في لندن. فالح بقي منشغلاً بوطنه العراق على رغم أنه، وخلافاً لآخرين قرروا العودة بعد سقوط صدام حسين عام 2003، قرر أن لا يعيش فيه. ربما شعر بأن هذا ليس عراقه، وبأن هذا العراق هو موضوع لبحثٍ ولدراسة، لكنه لا يصلح اليوم لأن يكون موضوع حياة. مات في بيروت، المدينة التي كان وصلها في أواخر السبعينات ثم ما لبث أن غادرها إلى مغتربات أوروبية، ليعود إليها بعد عام 2003 لأنها أقرب إلى بغداد التي بقيت مادة توتره ومولد طاقته إلى العمل وإلى مؤلفاته وكتبه عنها. كتب بالإنكليزية مؤلفات نشرها في لندن، وأخرى بالعربية، من بينها: «الديموقراطية المستحيلة– حالة العراق»، «معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي»، «الدولة والمجتمع المدني في العراق»، «العمامة والأفندي». في ربيع 2003 التقيت في بغداد فالح عبد الجبار، وكنت قصدت المدينة كصحافي لتغطية الحرب وما أعقبها بعد سقوط صدام حسين، وكان فالح جاءها كعراقي غادر بلده في أعقاب هجرة الشيوعيين العراقيين القسرية، وبرفقة فالح كانت الكاتبة فاطمة المحسن زوجته ورفيقة الهجرة والحزن العراقيين. يومها بدا لي فالح، المؤرخ والباحث والكاتب، صحافياً أيضاً، ذاك أننا ترافقنا معاً في رحلات إلى مدن الفرات الأوسط في العراق، أنا بهدف رصد ما أحدثه سقوط النظام في هذه المدن، وفالح لرصد ما تبقى من بنى عشائرية ومذهبية بعد سنوات القمع البعثي. كان في هذه الرحلات صحافياً أكثر مني، ذاك أنه انشغل كباحث بما يشغل الصحافيين، وراح يرصف لنا الوقائع الصغرى بصفتها مؤشراً لتحولات كبرى ليست بعيدة عن الحدث. زرنا، فالح وأنا، في حينه مقتدى الصدر في منزله في النجف، وفالح إذ راح يعاين وجه الوريث، لم يتردد بسؤاله عما اعتقد فالح أنني تعثرت بالسؤال عنه. والأيام التي أمضيناها في بغداد وكربلاء والنجف أشعرتني بأن للرجل همة الصحافي ومنهج الباحث وعقل المؤرخ، وهذا ما مكنني أنا رفيقه في تلك الرحلات من كتابة سلسلة من التحقيقات عن الظاهرة الصدرية بصفتها حدثاً لم يكن في متناولنا نحن الذين عرفنا العراق من خارجه. وفالح الذي كان مهجوساً بالعشيرة والقبيلة بصفتهما الركيزة النواة في الظاهرة السياسية العراقية، كان هو من فسر لنا الصدرية بصفتها ظاهرة الأفخاذ العشائرية النازحة من أقصى الجنوب العراقي، كالناصرية والعمارة والبصرة، إلى بغداد، فأقامت في مدينة الصدر (مدينة صدام سابقاً)، وألف لها السيد محمد صادق الصدر (والد مقتدى) كتاب «فقه العشائر»، الذي مثل وفق فالح دستوراً للعلاقة بين العشائر والمرجعية الشيعية. ولعل فالح الذي انتقل من الماركسية إلى الليبرالية من دون أن يكون هذا الانتقال صدامياً، احتفظ من ماركسيته بحس الباحث الاجتماعي، وتخفف من البعد الحداثوي التبسيطي الذي سقط فيه غيره من المنتقلين إلى الليبرالية. فالطوائف والقبائل بقيت في صلب اهتمامه بصفتها وحدات سياسية ارتبط بها الكثير من الأحداث السياسية. المجتمع، وفقه، ليس ترسيمة نظرية حديثة بل هو هذه الوقائع الثقيلة، وهو عندما توجه إلى بغداد فور سقوط صدام تقدم حس الباحث في خطوته حسّ المبعد عن وطنه، فكان متحفزاً لرصد ما فاته من انهيارات. وفي غمرة عودة الباحث إلى وطنه في ذلك العام، اصطدم مع غيره من العائدين بعراقٍ آخر غير الذي غادروه، فيومها كان فالح وفاطمة والراحل جلال الماشطة عادوا إلى بغداد لملاقاة من غادروهم، فإذا بهؤلاء وبعد سنوات البعث والحرب والحصار أناس آخرون. صديقتهم في الحزب وفي جريدة الحزب وصلت إلى الفندق لملاقاتهم ليكتشفوا أنها محجبة، ويومها ردت على دموعهم بأن ذكرتهم بأنهم غادروها، وأن الحياة في ظل الحصار لم تعد ممكنة من دون حجاب.