لا تكف الرواية اليابانية الحديثة عن شق طريقها بنجاح في العالم المعاصر الذي يُقبل على قراءة الروايات بشغف متزايد لكون هذا النوع الأدبي بالذات يتيح له دون سواه الإقامة في حياة افتراضية يتخفف بواسطتها من أثقال حياته الشخصية الحافلة بالمتاعب. وإذا كان الشعر الياباني عبر أسلوبي الهايكو والتانكا قد وجد لنفسه أصداء واسعة في حركة الشعر العالمي برمتها فإن الرواية بدورها استطاعت أن تحدث أصداء مماثلة من خلال كتَّاب بارزين من أمثال كاواباتا وميشيما وتانيزاكي وفو كازاوا وأوي وآخرين. وجميعنا يتذكر قول ماركيز بأن الرواية الوحيدة التي كان يتمنى أن يكون مؤلفها هي رواية كاواباتا المعروفة «الجميلات النائمات» التي تطرح بأسلوب رشيق ومشوق أعمق الأسئلة حول الحب والشهوة والشيخوخة والفقدان. لن يمر وقت طويل بعد ذلك قبل أن يتمكن روائي ياباني آخر هو هاروكي موراكامي من احتلال موقعه المتقدم وسط أقرانه الآخرين ويصبح واحداً من أكثر الكتاب مبيعاً في الآونة الأخيرة. وسواء في روايته «سبوتنيك الحبيبة» أم في الرواية الأخرى «جنوب الحدود غرب الشمس» يمكننا أن نلاحظ انتقال الكاتب بخفة بين المرئي وغير المرئي وبين الواقع والفانتازيا مقدما صورة عن الحياة مشوبة بالأسى والتشوش وانعدام اليقين. ولعل قول موراكامي بأن «الرواية ليست شيئاً من هذا العالم بل هي نوع من التعميد السحري لربط هذا العالم بالعالم الآخر» يشكل أحد المفاتيح الأساسية للدخول في عالمه الروائي الذي يلتقي مع ماركيز في واقعيته السحرية لكنه يفترق عنه في اجتياز الحائط الذي يفصل بين الحياة والموت كما بين الأشياء وتصورنا عنها. وقد يكون أختيار موراكامي لتجربة السفينة الفضائية الروسية سبوتنيك التي غادرت غلاف الأرض الجوي عام 1957 واختفت في غياهب الكون اللانهائي هو المعادل الرمزي لتصوره عن العالم حيث الوجود المحسوس هو الجزء اليسير الظاهر من جبل الجليد الممعن في أسراره وخفاياه. في روايته الأخيرة «رقص... رقص... رقص...» التي نقلها إلى العربية أنور الشامي، لا يبتعد موراكامي عن مناخاته السابقة لكنه لا يقع بالمقابل في التكرار والتنميط بل يعرف دائماً كيف يعثر على مقاربات جديدة للواقعين الياباني والإنساني. فالبطل الذي بلغ للتو الرابعة والثلاثين من عمره لا ينفك عن سماع صوت بائعة الهوى كيكي التي سبق أن التقى بها قبل أربع سنوات في إحدى غرف فندق دولفين المتواضع في مدينة سابورو اليابانية. وإذ تغوص الفتاة بعد ذلك في النسيان يقرر البطل الذي لا نعرف له اسماً أن يتفقد الفندق المذكور إثر مجموعة من الإشارات الصادرة من جهة الفتاة. وهو إذ يفعل ذلك يفاجئه أن يكون الفندق الهزيل الذي كانه الدولفين قد تحول إلى فندق حديث من دون أن يعمد مالكوه الجدد إلى تغير اسمه. ومع حرص البطل الشاب الذي يعمل في مجال الإعلام الصحافي «بالقطعة» وفق تعبيره، على معرفة ما جرى للفندق القديم الذي بات جزءاً من شبكة أحلامه تخبره موظفة الاستقبال يوميوشي بحذر شديد أن شركات رأسمالية عملاقة استطاعت التحايل على المالك الشرعي قبل أن تعمل على بناء البرج الشاهق الذي يناهز عدد طبقاته الست والعشرين. حين تخبر عاملة الفندق بطل الرواية بأنها فقدت الصلة بالعالم الخارجي فيما كانت تهم بدخول الطابق السادس والعشرين من المبنى يقرر هذا الأخير أن يختبر الأمر بنفسه فيفاجأ بدوره باستتباب الظلام الكامل وانفراج الحائط المقابل عن رجل مقنع يقدم نفسه له بوصفه ناظم تاريخ البشر في تحولاتهم المختلفة ومالك الحكمة السرمدية، ثم لا يلبث أن ينصحه بمواجهة الحياة عن طريق الرقص والحركة الدائبة التي تستطيع وحدها منعه من التفكك أو الانحلال. تتوالى الأحداث بعد ذلك فيقرر البطل المغادرة إلى طوكيو لإنجاز بعض الأعمال. وحين تطلب إليه يوميوشي اصطحاب الفتاة الصغيرة يوكي ذات الثلاثة عشر عاماً في رحلة عودتها إلى منزل ذويها يشعر بالحرج والارتباك لعلمه أن والدة الفتاة آمي التي تعمل في مجال التصوير غادرت الفندق للتو من دون أن تكلف نفسها عناء القيام بتلك المهمة. لكن الأدهى من ذلك هو أن يطلب والد الفتاة من الرجل العائد برفقة ابنته أن يتولى مرافقتها والعناية بها لقاء أجر مالي، غير آبه بقيام أية علاقة محتملة بين الطرفين. وفي هذا الوقت يلتقي البطل برفيق دراسته المبكرة جوناندا الذي احترف التمثيل واصطياد النساء والذي اعترف بعد تحريات طويلة بإمكانية أن يكون قد قتل بائعة الهوى كيكي وصديقتها الأخرى ماي التي عرفها إلى زميله في الدراسة قبل يوم واحد من الإجهاز عليها. وفي ظل ذلك المناخ الملغز والمثخن بالشكوك يعود البطل ليلتقي بالفتاة يوميوشي التي وقع في غرامها منذ البداية من دون أن يتأكد للقارئ سقوط الجدار الواهي الذي يفصل بين المتخيل والواقعي. ثمة أمور عدة بالطبع لا بد من ملاحظتها في إطار الحديث عن رواية موركامي. من بين هذه الأمور ما يتعلق بخفة السرد وطراوته والانتقال المستمر من الحياة المعيشة إلى الفانتازيا الماورائية من دون تعسف أو افتعال. وأعتقد من هذه الزاوية أن ثمة وشائج ظاهرة تربط بين تجربتي باولو كويللو وموراكامي لا من حيث الإيمان باللامعقول وتدخل القوى الخفية في حياة البشر فحسب بل من حيث البراعة الأسلوبية أيضاً بما يضع أعمالهما في صدارة الروايات العالمية الأكثر مبيعاً. الأمر الثاني الذي تمكن ملاحظته هو نبرة السخرية التي تحكم السرد وتشيع في ثناياه على رغم القاع المأسوي لروايته. وهو ما يتمثل في مواضيع كثيرة من بينها تشبيه الكتابة بالقطعة بجرف الثلوج الثقافية، تماماً كما هو حال العلاقة الجسدية بين المرأة والرجل في المجال العاطفي. كما يتمثل في إشارته إلى الابتسامة رقم 16 في إطار الحديث عن الابتسامات المفتعلة التي يرسمها مدراء الفنادق وموظفوها في وجه الزبائن. ثمة نوع آخر من السخرية الضمنية يتمثل أيضاً في التشابه غير العفوي بين اسم هاريكي موراكامي وبين اسم هيراكو ماكيمورا الذي أعطاه موراكامي لوالد الفتاة يوكي الذي يزاول هو الآخر كتابة الرواية. هنالك أمر آخر يتعلق بتخلل العلاقات الإنسانية في المجتمع الرأسمالي ليس فقط من خلال قتل روح اليابان القديمة التي يمثلها فندق دولفين بل أيضاً من خلال تخلي الأم أو الأب عن طفلتهما اليافعة، أو من خلال حالات الطلاق الكثيرة التي تتكرر في الرواية بحيث لا نعثر إلا على علاقات محطمة ومحكومة بالانفصال. والأدهى من كل ذلك هو مآل معظم أبطال الرواية إلى الموت قتلاً أو انتحاراً أو بفعل حادث مروع. فكيكي وماي تموتان خنقاً وديك نورث عشيق الأم المصورة يقضي بحادثة سير. والممثل جوناندا ما يلبث أن يقضي انتحاراً عبر إغراق نفسه في خليج طوكيو. وفيما تبدو الحياة برمتها رقصاً مع العدم، وفق رؤية الرجل المقنع، لا يملك الإنسان ما يفعله سوى البحث العقيم عن أطلال عالم غارق تحت بحر من الذكريات.