الساحة السعودية باتت ولكل مراقب في العقدين الأخيرين حلبة محتدمة الخلاف والتصادم بين مختلف التيارات حول جملة من القضايا والمتغيرات في المجتمع السعودي خصوصاً المتعلقة بحياته وواقعه الاجتماعي وتحديدا تلك المتعلقة بالمرأة السعودية والتي منها على سبيل المثال القضية المثيرة للجدل في هذه الأيام وهي قضية قيادة المرأة السيارة، ولكن الطارئ الحادث الذي يمكن تلمسه تجاه المجتمع هو أن تلك القضايا الجدلية لم تعد كما كانت من قبل هي شأن يخص أو يهم فئة أو نخبة محددة أو معينة، بل أصبح الحديث والاهتمام بكل مستجداتها الإعلامية والثقافية والإسهام والمشاركة فيها باتت تحظى بعناية واهتمام ومتابعة الشريحة العظمى من أفراد المجتمع باختلاف مستوياتهم وتوجهاتهم سواء بالقبول أو الرفض لها أو بتأييد هذا الرأي أو ذاك، وهذه ظاهرة صحية تدل على تطور وتحسن تدريجي في الفهم المجتمعي لقضاياه المختلفة واحتياجاته المتنوعة وأهميتها في واقعه. هذه القضايا والمتغيرات ليس الحديث أو النقاش حولها هو بالأمر الطارئ أو الحادث على المجتمع بقدر ما هي ملفات تعيد إنتاج نفسها من حين لآخر بصورة متقاربة وبسيناريوهات مكررة، ما يعني أن هذه القضايا لا تزال رقم الجدل والصراع الطويل المتكرر حولها لم يحسم بعد أمرها أو مصيرها، فقضية كقيادة المرأة السيارة مضى عليها أكثر من 20 عاماً من الجدل الطويل واستهلكت الكثير من الأوقات والكتابات ولا تزال حتى اللحظة محط خلاف ونزاع ثقافي وفكري! لذلك يرى البعض أن من أهم الأمور التي فاقمت وساهمت في حدة جذوة هذا الخلاف والصراع حول تلك القضايا واستمراريتها إعلامياً وثقافياً هو غياب الآليات الفعالة في إدارة وحسم تلك الصراعات والاختلافات الفكرية والثقافية حول جملة من القضايا والتي كان من المفترض حسمها منذ مدة من الزمن والوصول فيها إلى نتائج واضحة، ومن تلك الآليات المهمة افتقار المجتمع إلى العمل المؤسسي المتمثل في غياب عمل مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالشأن الثقافي والاجتماعي، التي تلعب دوراً كبيراً في إسهام المواطن ومشاركته في إدارة المجتمع وتطويره الحضاري والتنموي من خلال تلك المؤسسات، وكذلك غياب مراكز الدراسات البحثية والإستراتيجية المستقلة والمعنية بدراسة الظواهر المحلية للوصول إلى نتائج ملموسة وواضحة كان لها دور واثر واضح في استمرارية الجدل والصراع الفكري. إن من الأمور المهمة عند الحديث أو التطرق إلى القضايا الجدلية المتعلقة بالمرأة السعودية حضور النمطية التقليدية للخطاب السائد وبصورة رئيسة فيها، والحساسية المفرطة في تناول المسائل المتعلقة بها سواء من الناحية الدينية أو الاجتماعية، إضافة إلى الحساسية الرسمية والتردد في كثير من الأحوال على مدى السنوات الماضية من الإقدام على أي تغيير اجتماعي ملموس متعلق بواقع المرأة السعودية يكون له اثر واضح على واقع المجتمع، ولذلك نلمس تباطؤاً واضحاً في إنجاز وإنهاء وحسم العديد من تلك الملفات العالقة المتعلقة بالمرأة والتي كان من المفترض حسمها في مرحلة من المراحل، وهذا التأجيل أو التردد استثمرته التيارات الدينية المحافظة في مزيد من التهويل والتضخيم من حصول أي طارئ قد يطرأ على خصوصية المجتمع السعودي. ولكن مع تزايد الحراك الثقافي والاجتماعي وتعالي الأصوات المطالبة بمنح المرأة بعضاً من حقوقها كحق قيادة السيارة وحق الترشيح والانتخاب. على سبيل المثال تم طرح قضية المجتمع كعقبة للتغيير باعتبار أن «المجتمع السعودي غير مهيأ حتى الآن» أو «أن المجتمع غير متقبل لذلك»، وقد أشرت سابقاً في أحد المقالات بأن إلقاء المسؤولية والتبعة على تغير أو قابلية أو تهيؤ المجتمع على رغم التحديث والتطور والقفزات التنموية الكبيرة التي شهدتها المملكة طيلة السنوات الماضية للمجتمع السعودي وذلك على مختلف الأصعدة الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية - يمثل إشكالية كبرى في فهم واستيعاب طبيعة مثل هذه المشاريع التحديثية والتشكيك في مدى نجاحها ودورها الرئيس في النهوض والتغيير بأي مجتمع كان، فالمجتمع الذي نحن بصدد الحديث عنه لم يصبح بين يوم وليلة وهو يتحدث عن المطالبة بتلك الحقوق، بل هو مجتمع استغرق وقتاً طويلاً من الصراع والجدل حول تلك المطالبات الحقوقية وضرورتها في الحياة اليومية بالنسبة للمرأة والتأصيل والتنظير لها. ومن جهة أخرى فإن الركون إلى قابلية وتأهيل المجتمع ككل يتعارض مع الحد الأدنى من حرية الفرد الشخصية الضرورية في اختيار أسلوب تصريف شؤون الحياة اليومية، فقيادة المرأة السيارة باتت حقاً ضرورياً مهماً لشريحة كبرى من نساء المجتمع، ليس على وجه الإلزام للجميع بل على وجه التخيير لمن أرادت ذلك. كاتب سعودي. [email protected]