أيهما أجمل: الماضي أم الحاضر؟ أغلب الظن أن الأكثرية ستنحاز إلى الماضي. إن تذكر الماضي كفيل بتهييج الأشواق وإثارة الأشجان. وكيف لا، والماضي هو عنوان الخلافة الإسلامية والانتصارات العسكرية والإنجازات العلمية؟ يشبه الماضي البعيد في جماله وسحره القمر كلما نظر أحدنا إليه، تنهد وقال: «آه.. كم هو جميل!». وكما أننا لا نرى الحفر التي تستوطن خد القمر فإننا لا نرى الندوب التي تستوطن وجه الماضي. ماضينا جميل، وهذا صحيح، ولكن جماله ليس مطلقاً وسرمدياً. ففيه الشر إلى جانب الخير، وفيه القبح إلى جانب الجمال، وفيه الظلم إلى جانب العدل، وفيه الشهامة إلى جانب الخيانة. نحن أكثر أمم الأرض افتناناً وبكاءً على أطلال الماضي. فأنا لم اسمع في يوم بإيطالي يبكي أمجاد روما الغابرة، ولم أسمع بمغولي يبكي فتوحات جنكيز خان الباهرة. إن تعلقنا بالماضي ليس مجرد حالة شعرية طارئة، وإنما حالة مرضية دائمة. الماضي لا يرخي بظلاله الثقيلة على حاضرنا فقط، بل أنه يرسم ملامح مستقبلنا. لقد أدى الانغماس في الماضي إلى معاداة القيم الكونية الإنسانية، وإلى تعطيل الإبداعات العقلية، وإلى اجترار ما حفظه لنا الأجداد، ومن ثم إلى ارتكاس الأمة حضارياً. وما هو أخطر من التكلس العقلي والتحجر الحضاري هو ظهور نوازع العنف في تضاعيف الخطاب الديني كأقسى تعابير العزلة والماضوية، وهو ما نجده واضحاً في أفكار جماعات الإرهاب المتأسلم وممارساتهم الدموية. شخصياً، وإلى وقت قريب، كنت أحلم لو أن آلة الزمن قد عادت بي آلاف السنين إلى الوراء. كانت تثيرني بابل بتاريخها، وغموضها، وعلومها، ونفوذها، وملوكها. كانت تستهويني بغداد زمن الألق العباسي بسحرها، ولياليها، وعلومها، وفنونها، وطرائفها، وعظمتها. وكانت تستهويني بشكل أكبر حواضر الأندلس بقصورها، وطبيعتها، وبطولاتها، وأشعارها، وتفوقها، وتسامحها، وانفتاحها. غير أني فيما بعد، اكتشفت أن الحاضر رغم التلوث، والانقلاب المناخي، والإرهاب، والأسلحة الفتاكة، والفساد، والانفجار السكاني، والتضخم، والبطالة، والقلق، والاكتئاب أجمل مهما كان من الماضي بمآثره وأصداءه، وصولاته وجولاته، وبطولاته وأبطاله. تعليمياً، أنا وأنت أكثر حظاً من أسلافنا. انتشرت المدارس والجامعات، وصار التعليم متاحاً كالماء والهواء، وتنوعت التخصصات، وتشعبت العلوم والمعارف، فتقلصت مساحات الجهل، وتراجعت نسب الأمية. صحياً، أنا وأنت أكثر حظاً من أسلافنا. تطورت سبل الوقاية الصحية، وتوالت الفتوحات الطبية، وأنهى الطب الأمراض والأوبئة التي طالما فتكت بالأفراد والجماعات، فزادت أعداد البشر، وطال متوسط عمر الإنسان. حقوقياً، أنا وأنت أكثر حظاً من أسلافنا. سقطت أغلال العبودية وللأبد، وانتهت ثنائية الحر والعبد، واستقلت السلطات القضائية، وسادت قيم القانون والعدل والمساواة. تقنياً، أنا وأنت أكثر حظاً من أسلافنا. ذوبت التقنية الحديثة المسافات الزمنية والمساحات المكانية، ووفرت لنا المعلومات، وسهلت علينا الاتصالات بتكلفة متدنية وسرعة فائقة. الحاضر، على رغم مادياته وأمراضه ومثالبه، أجمل من الماضي. انظر إلى حال المرأة اليوم وحالها بالأمس. لقد تحررت المرأة من أغلالها، واستردت كرامتها ومكانتها، وخرجت من جلباب الرجل، وصارت مساوية له في العقل والأهلية، ونداً له في ميادين العمل والمسؤولية. وانظر إلى ما انتهى إليه العلم في وقتنا الحاضر. بددت أنوار العقل البشري ظلامات الخرافة وحملت الإنسان إلى آفاق بعيدة. فبفضل العلم، شق الإنسان سكون الفضاء، وبلغ قيعان المحيطات والبحار، واخترع طفل الأنابيب، وتحكم بالجينات الوراثية، وعرف الاستنساخ. وعلى رغم كل ما يقال عن حاضرنا، تمكن الإنسان بفضل البحوث الأركيولوجية والأدوات التحليلية أن ينزع القناع عن وجهي التوراة والأناجيل، وأن يفند كثير من المزاعم التاريخية، وأن يكشف عن «سرقات» مؤلفيها من نهر الأساطير الوثنية، الأمر الذي أدى إلى إلغاء هيمنة رجل الدين ونفيه من عالم المادة إلى عالم الروح. ماذا بعد؟ إن الحنين للماضي ليس سببه أنه أجمل من الحاضر، بل لأن كل ما في حاضرنا من إنجازات وإبداعات يعود الفضل فيه إلى الغرب وليس نحن! ما الحل؟ يجب أن نستيقظ من أحلامنا، ونتخلى عن أوهامنا، فالماضي لا يعود، وعقارب الساعة لا تتحرك إلى الوراء. لنأخذ من الماضي أجمل ما فيه، ولنحيا الحاضر بما فيه، ولننخرط في تعمير الدنيا وبناء الحضارة دون عقدة التفوق والريادة. فإننا إن لم نفعل، فلا ماضي أرجعناه، ولا حاضر عشناه. [email protected]