في العدد الأخير من دورية «مصالح أميركية» American Interests خرج علينا اثنان من أساطين التنظير للنموذج الديموقراطي الأميركي، فرانسيس فوكاياما وفريد زكريا، بقراءة اقرب الى التنبؤات لجهة مستقبل مصر السياسي، والنظام الجديد الذي لا يزال يتشكّل في رحم الأحداث. عبّر فوكاياما عن ثقته بأن مصر ستحقق «نجاحات ديموقراطية»، فيما توقع زكريا أن تشهد تطوراً ديموقراطياً خلال السنوات العشر المقبلة، أكثر مما شهدت خلال السنوات الأربعين الاخيرة، وأن تصبح بحلول 2020 مثل اندونيسيا اليوم. على ان أحداث المواجهات الطائفية التي جرت أخيراً في حي إمبابة، باتت تلقي بظلال من الشك حول الديموقراطية المأمولة، لا سيما في أجواء الثقافة السمعية التي تردد من دون فهم، وتتحدث من دون معرفة، وتحكم بلا حيثيات. تقول أوراق البردى ان احد الفراعنة قد نُمي إليه ان علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم، وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع ان يُجهز على الجميع، فلا يشذ في تصرفه عن مناخ زمانه، ولكنه دعا الى حضرته نخبة من رجال القانون وطالبهم بالتحقيق في ما نُمي الى علمه، قائلاً لهم انه «يريد الحقيقة ليحكم بالعدل». ... أين هذا الحديث من ديماغوجية إمبابة المعاصرة؟ وكيف يمكن ان تنجح مصر ديموقراطياً على النحو الذي نراه؟ لعل الاستفتاء الذي جرى حول التعديلات الدستورية الاخيرة، قد كشف عن اشكالية حقيقية وضبابية شبه مطلقة، تغلف فحوى المفهوم الديموقراطي في مصر. فالاستفتاء جرى برسم طائفي ديني، ولم يستفتَ المصريون وفقاً لانتماءات سياسية أو برامج إيديولوجية، على رغم ان القضية تتناول مفاهيم ورؤى سياسية وتشريعية، قابلة للتبديل والتعديل وليست ألواحاً محفوظة. ثم كيف للديموقراطية ان تجد سبيلاً الى نجوع وكفور وقرى مصر، إذا كانت النخبة فيها تعاني ازدواجاً أخلاقياً يقارب حدود الخديعة للجماهير؟ الدكتور محمد البرادعي الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية، والوجه المرشح للرئاسة المقبلة، يؤكد ان 80 في المئة من الشعب غير جاهز للديموقراطية، وأن الانتخابات المقبلة لن تكون ممثلة من كل القوى السياسية في البلاد. وقد عزا عدم جاهزية اغلب الشعب المصري الى ان الشارع ليست لديه قدرة الآن على إنشاء أحزاب سياسية تكون قادرة على التواصل مع الناس. ليس هذا فحسب، فالبرادعي يصف قرار إنشاء لجنة الدستور الجديد من مجلس الشعب المقبل بأنه خاطئ تماماً للسبب نفسه، ويعترف بأنه لا توجد أي خطة طريق واضحة للمرحلة الانتقالية، وليس هناك تخطيط لمسار الأمور بعد انتهاء هذه المرحلة، وأننا نعيش مرحلة غامضة... فهل اكتشف البرادعي هذه الحقائق على حين غرة؟ سبق السيف العدل، وبات المشهد الآن إسقاطاً لكبت دام عقوداً، إسقاطاً لا تستقيم معه الديموقراطية بسبب غياب الحريات، فلا ديموقراطية ولا ليبرالية من دون حريات. يفصل البروفيسور مايكل ماندلبوم من جامعة جونز هوبكنز في واشنطن، شكل الحرية في ثلاثة نماذج: الحرية السياسية التي تتخذ هيئة الحقوق الفردية في حرية التعبير وتأسيس الجمعيات، والحريات الدينية التي تعني ضمناً حرية العبادة لكل أتباع الديانات والعقائد الإيمانية المختلفة، والحرية الاقتصادية التي تتجسد في حق الملكية الخاصة. فهل تتوافر هذه المستويات الثلاثة من الحريات في الواقع المصري المعاش؟ حكماً لا، ومشهد إمبابة شاهد على ذلك. كبت للحريات السياسية عبر عقود، ونفي وعزل للآخر المختلف دينياً والسعي الى حرقه، وفقر منتشر بين الأرجاء، وثقافة سمعية أصولية جوفاء. وعليه فانتخابات من دون حرية لا تقود الى ديموقراطية حقيقية، بل الى غزوات أخرى مثل «غزو الصناديق». والحقيقة التي يدركها القاصي والداني ان الفريق الأكثر تنظيما في مصر اليوم هو الفريق صاحب الأصوات الدينية الزاعقة، والرايات المذهبية الفاقعة، الرافض لحرية الأديان وللحقوق الفردية، وبخاصة حقوق المرأة والأقليات، الأمر الذي يجعل من رؤى فوكاياما وزكريا يوتوبيات مستحيلة المنال في الوقت الراهن. ما تشهده مصر في حقيقة الأمر ليس فقط تجسيداً لغياب الديموقراطية، بل هو الطريق الى «الديموقراطية الفوضوية» التي لا يعلم احد الى أين يمكن ان تذهب بمصر والمصريين. ويبقى السؤال: لماذا قدر لدول أوروبا الشرقية ان تتحول الى نموذج ديموقراطي في أوقات قياسية وتبدو التجربة غير قابلة للتحقق عربياً؟ باختصار القول، كان لدول أوروبا الشرقية رصيد سياسي مستمد من تجارب دينية هيراركية ممثلة في التنظيمات الكنسية، وتاريخية عبر نماذج ديموقراطية وليبرالية سابقة، تعرف العمل المؤسسي بأشكاله، وهو ما يغيب عن العوالم والعواصم العربية التي ساد فيها ولا يزال، نموذج الحزب أو التنظيم الواحد، ولذلك فإنه ما ان أعلن غورباتشوف فك ارتباطه بالمعسكر الشرقي فاتحاً المجال أمام كل بلد لرسم سياسته الخاصة به من دون تدخل سوفياتي، حتى كانت العودة الى الجذور الديموقراطية من جديد يسيرة. ان مشهد إمبابة الطائفي يكشف عن الحاجة المصرية العاجلة لإستراتيجية من ثلاثة محاور، لا تقوى على تنفيذها سوى القوات المسلحة المصرية التي حمت ثورة 25 يناير، والتي هي سند الشعب المصري الأول ومعينه في بحثه عن الدولة المدنية الديموقراطية: أولها بسط أجنحتها لتوفير الأمن بأسرع ما يمكن لكل المصريين، وثانيها إحقاق العدالة على أتمها، وثالثها دعوة حقيقية لتفعيل العمل الأهلي وإطلاق يد العقلاء والمخلصين للعمل معاً لإنقاذ مصر. وإلا، فإن ما جاء في الأثر سيصبح الأقرب الى قلوب وعقول الغالبية «ملك ظلوم خير من فتنة تدوم». * كاتب مصري