إنّها لحظة تحوّل لا مرد له في تاريخ مغامرة الإنسان في اكتشاف الكون. مع الصاروخ العملاق «فالكون هيفي» Falcon Heavy، تخرج مغامرة العقل البشري من السيطرة المديدة للحكومات لتصبح مساراً مشتركاً مع القطاع الخاص. لا أقل من ذلك في أن يكون الصاروخ الذي صنعته شركة «سبايس إكس» Space X، هو الأضخم والأقوى على الأرض (بل الثاني تاريخياً أيضاً)، وأول صاروخ للقطاع الخاص يدخل الفضاء الكوني. ويشبه ذلك تلك الثورة التي أحدثها العبقري بيل غيتس عندما نقل المعلوماتيّة من سيطرة الدولة على علوم الكومبيوتر، لتصبح مساحة لا نهاية لها للنشاط الفردي والخاص، عبر نظام «دوس» الذي وُلِد نظام «ويندوز» من رحمه. وعلى غرار غيتس، نقل العبقري إيلون ماسك الاستثمار العلمي في مشاريع الفضاء إلى القطاع الخاص، عبر صاروخ من نوع «فالكون» قابل لإعادة الاستخدام أطلقه العام الماضي، ثم وصل بسرعة إلى صاروخ معد للدوران في الكون والوصول إلى المريخ. والطريف أنّه يحمل سيارة كهربائيّة، ستكون ثاني ما سبق البشر إلى الكوكب الأحمر، بعد سلسلة من الروبوتات الفضائية ك «مارس باثفايندر». وهناك أبعد من مجرد الترويج للسيارة التي تصنعها شركة «تيسلا موتورز» (وهي من استثمارات ماسك العلمية أيضاً)، بمعنى التشديد على صناعة مواصلات بريّة تتصادق مع البيئة. والأرجح أن ظلالاً من الخلاف الشهير بين ماسك والرئيس دونالد ترامب تحضر أيضاً. إذ تخدم تلك السيارة التوجه للحفاظ على البيئة وخفض التلوث المرتبط بحرق الوقود الأحفوري، فيما أطلق ترامب عنان الاستثمار في ذلك الوقود، خصوصاً النفط الصخري، إضافة إلى انسحابه من «اتفاق باريس العالمي 2015» في شأن المناخ. وينسجم الخلاف المضمر مع آخر معلن تمثّل في انسحاب إيلون ماسك من «المجلس الأميركي للتكنولوجيا»، الذي أسّسه ترامب في مستهل ولايته، لكنه شهد انسحاب قادة شركات التكنولوجيا احتجاجاً على مواقف ترامب المعادية للهجرة إلى أميركا، وهي التي ترفد بلاد «العم سام» بأدمغة عالميّة متجددة. ومن قاعدة «كينيدي» في كايب كانافرال في ولاية فلوريدا، انطلق (أمس) صاروخ «فالكون هيفي»، مذكراً بالرحلة الأسطورية التي انطلقت من القاعدة نفسها إلى القمر قبل قرابة نصف قرن، بل لا تزال تلك القاعدة تحتفظ بأشياء تلك الرحلة (غرفة المراقبة، تماثيل عن بعض العلماء، كراسي المختصين وثيابهم، طاولات عليها ما يمثل طعامهم وقهوتهم...) في ما يشبه متحفاً علميّاً مستمراً حتى الآن. «سيحمل «فالكون» سيارة «تسيلا» حول الشمس، ثم تنطلق إلى المريخ، لتبقى في الفضاء الكوني ربما لبلايين السنوات». كتب ماسك تلك التغريدة في أواخر 2017، عندما كان مقرّراً إطلاق الصاروخ في آخر أيامها. ومع اندلاع الخلاف بين الكونغرس وترامب حول الموازنة، أصاب شلل موقّت قطاعات حكوميّة، من بينها وكالة «ناسا» للفضاء التي انطلق «فالكون هيفي» من قاعدتها الفضائيّة. هناك مقارنة شائعة تفاصيلها على الإنترنت بين الصاروخ «ساتورن 5» الأضخم في تاريخ البشرية، تجعل «فالكون هيفي» وريثه المباشر. ولا مجال للمقارنة مع الصواريخ التي يتباهى نظام كورية الشمالية بإطلاقها مهدداً السلم العالمي، خصوصاً عندما يكون ردّ رئيس القوة العظمى الأولى على الأرض، «متدنيّاً» إلى حد عبارة «زري النووي أكبر من زرّك» في التغريدة الشهيرة لترامب رداً على كيم جونغ- أون! ماذا يعني أن يتمكّن القطاع الخاص من الوصول إلى صواريخ استراتيجيّة تبدو معها صواريخ قوى كبيرة مجرد ألعاب صغيرة! كيف يمكن وصف الردع الاستراتيجي في النظام العالمي في ظل تلك الصورة عن الصواريخ الاستراتيجيّة؟ كيف يمكن ضبط برنامج تسلّح صاروخي استراتيجي لبلد ما (إيران مثلاً)، إذا كانت تلك القدرات تتسرب إلى شركات تسعى أساساً إلى الربح؟ في المقلب الآخر، ربما حمل ذلك أملاً فضائياً إلى بلدان كثيرة تسعى للمشاركة في اكتشاف الكون علميّاً.