خطاب نتانياهو أمام الكونغرس ينهل من أدبيات السياسة المتصّلة بالدولة الإقليمية أو القومية. وقد أضاف إليها خصوصية التجربة الإسرائيلية التي لم تتلخص في كون مجتمع المهاجرين اليهود لم يحظ بشرعية من المقيمين والمحيطين. ومع هذا فإن خطابه لم يكن أيديولوجياً ولا حديثاً في الأسس بقدر ما كان في التكتيك الدعائي والتفاوضي. فهو لم يرسم حدود الدولة الفلسطينية أو حدود إسرائيل بعد التسوية المأمولة، بل رسم الخطوط التفاوضية الأولى التي سينطلق منها في كل عملية تفاوضية مستقبلية. وهي خطوط تحظى في شكل أو في آخر بنوع من إجماع إسرائيلي راهن. ومن هنا، فإنه لم يُضِف شيئاً ولم يُقدّم جديداً. هذا مع العلم أن المسرح والإخراج كانا جديدين على طريقة الاستعراض الأميركية. لأن الأمر في شأن تكتيك دعائي تفاوضي ينبغي على القيادات الفلسطينية الامتناع عن إعادة النظر في استراتيجيتها الراهنة إلا لجهة الذهاب حتى النهاية في مشروع انتزاع اعتراف بالدولة الفلسطينية من الجمعية العمومية للأمم المتحدة. فاعتراف كهذا سيكون مفصلاً مهماً في تاريخ المسألة الفلسطينية حتى لو تأخّرت تطبيقاته على الأرض. فاعتراف العالم بدولة فلسطينية بعد اعتراف سابق بحق الفلسطينيين في الدولة، يعزّز روايتهم ويشدّ أزرهم من جهة، ويضع علامة سؤال ضمنية على المشروع الإسرائيلي برمّته. بمعنى، أن الاعتراف العالمي في هذه الظروف من التحولات في كل مستوى، سيشكّل نوعاً من الصعقة للنخب الإسرائيلية ومشاريعها. وهي، وإن كانت مرشّحة للردّ بصلف أو عنف في أول الأمر، لكنها ستكون ساعتها تحت عيون المجتمع الدولي الذي أقرّ للتوّ اعترافه بالدولة الفلسطينية. وهو اعتراف يفتح آفاقاً واسعة أمام تحرّك دول ومجموعات دول وفق أحكام القانون الدولي في معاقبة إسرائيل أو الضغط عليها. من هنا فإن الاعتراف لن يكون مكسباً فلسطينياً رمزياً بل مكسباً عملياً يشكّل اقتراباً من المجتمع الدولي نحو محاصرة السياسات الإسرائيلية ونقدها ومواجهتها. سيساعد في هذا مناخ دولي متحوّل لمصلحة الشعوب، وإقليمي يضيّق الاعتماد المفتوح الممنوح لإسرائيل. وعليه، نوصي ألا تتراجع القيادة الفلسطينية عن هذا الخيار مهما يكن، بخاصة لأنه ديبلوماسي يستند إلى الأعراف وينزع فتيل العسكرة والأمن في السياسة والدعاية الإسرائيليتين. خيار كهذا ينبغي أن يترافق مع استراتيجيات العمل المدني ميدانياً. بمعنى، ينبغي التزام الممانعة المدنية من اليوم فصاعداً كورقة ضغط تنسجم مع المناخ الدولي، ومع توقعات المجتمعات البشرية الآن من أصحاب قضية عادلة. يقيناً منّا أن إسرائيل وأطرافاً أخرى ستعرض على الفلسطينيين إغراءات ومقترحات للعودة عن مسار الأممالمتحدة. بل ستتعرّض القيادة الفلسطينية للضغوط المتنوعة من جهات متنوعة. وهي هنا في امتحان التاريخ. فإما أن تُعطي معنى لحق تقرير المصير من خلال الشرعية الدولية في مرحلة من التحولات المهمة المناسبة لدفع المشروع السياسي الفلسطيني إلى مداه، واما أن تنكفئ إلى التكتيك في إطار رؤية ضيّقة في أساسها الخوف من ردّ إسرائيلي راديكالي. أوساط واسعة في إسرائيل، لا سيما في النُخب لم تصدّق كلمة واحدة في خطاب نتانياهو، بل قرأته كمن يضع إسرائيل في مواجهة حادة مع أميركا والعالم ويتهرّب من فرصة تحقيق السلام والأمن لإسرائيل. وعليه، ليس هناك أي أساس لأي فلسطيني كي يُصدق نتانياهو أو مبعوثيه أو بكّاءاته في أوساط الكونغرس أو في أوروبا. لأن القناع الأخير أوشك أن يسقط عن سياسات نتانياهو ونُخبه، ينبغي ألا يكون الفلسطينيون أنفسهم سبباً في تأخير سقوطه أو ارتكاب أخطاء تحتجب السياسات الإسرائيلية خلفها. لقد بدأ نتانياهو المفاوضات المقبلة من الكونغرس. وأعتقد أن على الفلسطنيين أن يبدأوها من هيئة أوسع وأهمّ هي الجمعية العمومية للأمم المتحدة. بل سيُساهم الفلسطينيون في رفع مكانة هذه الهيئة ويدعمّون الشرعية الدولية إذا أعطوها شرف الاعتراف بدولتهم. وإذا حصل هذا فهو سيساعد على تقوية المركز الأممي على حساب المراكز الدولية. وإذا كان نتانياهو خاطب ممثلي الشعب الأميركي من فوق رأس أوباما فإن خطوة التوجّه إلى الأممالمتحدة ستكون مخاطبة الأميركيين وكل شعوب العالم من فوق رؤوس زعماء وقيادات محسوبة على إسرائيل في أميركا وسواها. وسنرى خطوة كهذه تعزيزاً لتوجهات في النُخب والشعب الأميركيين ترفض سياسات الاحتلال والصِدامية الإسرائيلية على طريقة نتانياهو وتُعزّز من تأثيرها في مواقع صنع القرار في البيت ألأبيض والكونغرس وسواهما. ومع هذا فالأهمّ هو دفع المشروع السياسي الفلسطيني - إقامة دولة - إلى الأمام من خلال الشرعية الدولية. وهي شرعية إذا تحصّلت على شكل قرار دولي، فإنها تعني في شقها الثاني، تمكين مجتمعات ودول من الاستناد إلى هذا الحدث الدالّ والتعامل مع إسرائيل بقفزات ديبلوماسية غير حريرية سقفها قرار الأممالمتحدة في عالم تتحرّك فيه مراكز قوى عدة على تناقضاتها. وهو اعتراف يُعيد المسألة الفلسطينية من غربتها ويدفع نتانياهو خارج التاريخ. وهذا صحيح، أيضاً، في حال لم يؤدِّ الاعتراف إلى دولة فلسطينية بالضرورة بل إلى فتح آفاق مصالحة تاريخية تتجاوز المفهوم المتقادم لحقّ تقرير المصير والدولة الإقليمية!