طالب عبدالرحمن الشبيلي أرباب صنعة الإعلام بأن يتكيّفوا مع جديد العصر، ويُطوّعوه وفق قيَم المجتمع ومبادئه، ويُوظّفوه توظيفاً واعياً في خدمة الأمة. مستعرضاً تجربته الإعلامية العريضة في نادي الرياض الأدبي. «الحياة» تنشر هنا مقتطفات من اللقاء المفتوح الذي نظمه منتدى الشباب الإبداعي في نادي الرياض الأدبي أخيراً، والذي أداره الكاتب سعد المحارب: وجاء فيه على لسان عبدالرحمن الشبيلي كانت صدفاً صغيرة، قد يكون أحدكم سمع بعضها من قبل، ضمّت تحوّلات صنعتها الإرادة الإلٰهية، صدق فيها قول الحق سبحانه «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله»، لعل مفرداتها وفقرات غيرها تكوّن موضوع رواية مستقلّة لسيرة ذاتيّة موجزة، تصدر عمّا قريب بإذن الله. محدثكم كانت له صدف في دراسته، ومثلها في اختيار التخصص، وفي تنقّلاته الوظيفيّة فيها، وعندما تستعاد اليوم تلك المصادفات، يستحضر معها الإنسان القوّة الخفيّة التي تسيّره. وكانت له في صحّته وفي أسرته مصادفات أخرى، لكن المقام لا يتّسع للخوض فيها. وقع الاختيار على موضوعها هنا، لما فيه من البساطة، ولأنه يدعو للتأمّل في تدبير الله في مسيرة الإنسان واختيار دربه، فما يختاره الله له، سواءً أكان في ظاهره لمصلحته أم العكس، ومهما حاول المرء أن يتجه إلى اتّجاه آخر، أو كان يسير في درب مغاير من دروب الحياة. يكون بالتالي ما أراده الله هو الخير بإذنه تعالى. ولد محدّثكم في مدينة عنيزة بالقصيم، أواخر عامي 1363ه (1944)، في أسرة مستورة الحال، شقيقاً لثلاثة إخوة وأربع أخوات، كان والدهم طالب علم وشاعراً، ارتبط كثيراً بشيخ المدينة ذائع الصيت عبدالرحمن السعدي وأقرانه في حينه، له محل بسيط لبيع الحبوب والتمور، جرّب السفر إلى الهند فترة قصيرة مثل كثر من جيله، وعاد منها من دون أن يدوّن تجربته فيها أو يكتب شيئاً عن حياته، لكن شعره محفوظ في كتاب أصدره محدّثكم. أما والدتهم، فكانت نازحة من بلاد الأناضول، قادتها الصدف العجيبة أيضاً إلى مطاف انتهى بها وهي طفلة، إلى عنيزة، في بيئة تختلف حياتها ولغتها ومناخها وتركيبتها السكانية عمّا نشأت فيه أساساً، فاندمجت فيها وصارت «قصيميّة» الهوى واللهجة والمهارات المنزليّة، وكان الوالد تزوّجها بعد وفاة زوجته الأولى، التي كتب فيها مرثيّة طويلة متداولة. والواقع أن تخصّصه الجامعيّ في كليّة اللغة العربية، قد أفاده كثيراً في عمله الإعلامي اللاحق، وفي التدريس الجامعي، وفي اهتمامه بالتأليف والتوثيق في ما بعد، ليس بتمكينه فحسب من اللغة السليمة التي يتطلّبها كلٌ من الإعلامي وأستاذ الجامعة والكاتب، ولكن بحمايته من أن تطغى مدخلاتُ الثقافة الأجنبيّة وتأثيراتُها بعد حصوله على الماجستير والدكتوراه في بلاد الغرب، على مفرداتِ حديثه وحياته العامة. باشر عمله في إذاعة جدة عام 1383ه (1963) قبل عام من افتتاح إذاعة الرياض، لكن قلبه ظل معلّقاً بإكمال عامين متبقيين له في جامعة الملك سعود، فتحايل على إدارة الإذاعة لنقله إلى الرياض، للعمل مع فريق التحضير لافتتاحها. وفي أثناء عمله القصير في الإذاعة، عاش تجربة تأسيس إذاعة الرياض بكل ظروفها، ثم فاجأته صدفة ثالثة، انتقل معها إلى التلفزيون، وسعى بعد عامين للدراسات العليا. وكادت ظروف في الأشهر الأخيرة من إكمالها أن تجبره على العودة، لكن إرادة الله كانت إلى جانبه في صدفة غير متوقّعة، إذ انتقل وزير الإعلام جميل الحجيلان - الذي له الفضل فيها ثم كان الراغب في قطعها - إلى وزارة الصحة. أمضى في العمل الإعلامي التنفيذي 14 عاماً، بنجاحاتها وإخفاقاتها، جمع فيها بين العمل الإداري والتخطيطي وإنتاج أربعة برامج وثائقيّة خاصة به، وحاز بفضل الله في أثنائها شهادتي الماجستير والدكتوراه، وعاش عدداً من الأحداث الداخليّة والخارجيّة التي مرّت على البلاد والمنطقة والعالم، منها ما كان مراقباً لها ومنها ما كان منهمكاً فيها، وشرُف بالعمل مع جميل الحجيلان وإبراهيم العنقري والدكتور محمد عبده يماني. وخرج باقتناع عبّر عنه في جملة من المواقف، بأن الإعلام الوطني الداخلي والخارجي، ومنذ بداياته، لم تتهيّأ له السمات الاحترافيّة المتمكّنة والمرونة الإداريّة الكافية، اللّتان تجعلانه يرتفع بالتطوّر المهنيّ الراقي إلى مكانة أمته ودولته ومجتمعه. ثم شاء الله له أن تكون وجهته بعد ذلك في صدفة جديدة لم يخطط لها، إلى وزارة التعليم العالي عبر التدريس لسنوات في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود، ثم أصبح وكيلاً للوزارة لشؤون الجامعات، عاصر فيها كلّاً من الشيخ حسن آل الشيخ والدكتور عبدالعزيز الخويطر والدكتور خالد العنقري. واقترنت تلك الفترة باختياره عضواً في المجلس الأعلى للإعلام، الذي جاء إلغاؤه بعد 23 عاماً، مع مجالس غيره، استجابةً لدواعي الإصلاح الإداري، ولوجود مجلس الشورى. واليوم، وبعد 15 عاماً من الإلغاء، يستحق المجلس أن تُسجّل بشأنه شهادتان للتاريخ؛ الأولى: كان الأمثل أن يستمرّ ويتطوّر ليملأ الفراغ النظامي المتمثّل في الفصل بين الاستحقاقين التنفيذي والتنظيمي في شؤون الإعلام، فضلاً عن أن كثيراً من دول العالم تستغني بمثل هذا المجلس عن إنشاء وزارات الإعلام. والثانية: أن ارتباط المجلس بشخص وزير الداخليّة رئيساً، لم تخالطه اعتبارات أخرى من طبيعة الوزارة كما اعتقد البعض، بل كانت قراراته من الإنصاف بحيث انحازت مع الحق، حتى ولو جانبت مواقف جهات تنفيذيّة. سار محدّثكم في الوسط الأكاديمي 17 عاماً، أسهم فيها إلى جانب التدريس، في عضويّة مجالس إدارة الجامعات، وتعامل فيها مع معادلة الشهادات الأجنبيّة، وشارك في وضع اللوائح والقضايا التعليمية المشتركة، وترأّس بعض اللجان المركزيّة في الوزارة، واللجان البينيّة الجامعيّة. كانت تجربته فيها فريدة متجدّدة، تعلّم منها أكثر مما علّم فيها، في مناخ أكاديمي راقٍ، مليء بالمكاسب الذهنيّة المتنوّعة، عبر التعاطي مع سبع جامعات، تحتضن مختلف التخصّصات العلميّة والإنسانيّة وبرامج الدراسات العليا. وكما أتى إلى الإعلام والتعليم العالي من طريق الصدف، قادته صدفة مماثلة إلى مجلس الشورى في بداية تكوينه، اكتسب فيها خبرات ثمينة؛ قانونيّة وشوريّة وبرلمانيّة، لا تتوافر في محيط آخر، وعاصر فيها فترة تأسيس المجلس في عهد رئيسيه الشيخ محمد بن جبير والدكتور صالح بن حميد. ويمكن وصف تلك المرحلة الشورية، التي انشغل فيها باجتماعات المجلس وأعمال لجانه، بأنها كانت محطّة هادئة، مهّدت للانتقال إلى حقبة تقاعديّة متدرّجة منسابة، أدخلت محدَّثكم بعد 12 عاماً من عضويّة المجلس، إلى العمل التطوّعي في جهات ثقافيّة خيريّة عدة، والانشغال في العمل الثقافي الماتع. كان الولوج إلى العمل الثقافي واحداً من أبرز المصادفات التي مرّت بمحدّثكم، وهو الذي طاف بالإعلام والتعليم العالي والشورى وبلغ ال40 من العمر، من دون أن يمارس الكتابة المحترفة، فإذا بالقدر يقوده إلى عالم التأليف والتوثيق والبحوث من أوسع الأبواب، فيستحوذ هذا النشاط الحالي على جلّ أوقاته، تاركاً حيّزاً يسيراً للالتزامات التطوّعيّة والاجتماعيّة الموجبة. ومتمنّياً لو امتدّ نهاره وليله لساعات إضافيّة. ينشغل المجتمع الإعلامي في هذه الآونة، بالحديث عن تلاش وشيك للصحافة الورقيّة، وأن التلفزيون سيطاوله التلاشي للعوامل نفسها، والواقع أن الغرابة ليست في تحوّلات العصر، بل في الأنظمة التي تصمّم لزمن معيّن، ولا تكون قابلة للمرونة مع متغيّرات الصنعة الإعلاميّة، فصارت المؤسسات الصحفيّة كصاحب مصنع صمّمه لمنتج معيّن فلمّا خانه الموسم قام بتعطيله. لقد تطلّبت ظروف سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة قبل خمسة وخمسين عاماً أن تتحوَّل الصحافة إلى نمط المؤسسات الصحفيّة الأهليّة، بديلاً لما كان يسمّى صحافة الأفراد، لكن الحواجز التي تضمّنها التنظيم آنذاك، جعل من الصعوبة على الصحافة بمكان تجاوزها الآن إلّا بتغيير بنود النظام. وكان يمكن منذ بدأت الصحافة المحليّة تواجه أوضاعاً صعبة، الاكتفاء بنظامي المطبوعات والشركات في تصريف شؤونها، ومنحها المرونة في ابتكار منصّات استثماريّة جديدة، تكفل لها التكيّف مع المتغيّرات الاقتصاديّة. لقد خاض محدّثكم على مدى ربع قرن تجربة الكتابة بكل متطلّباتها، في التحرير والتأليف والفهرسة، وفي مراجعة مؤلّفات غيره، في حصيلة بلغت بفضل الله عدداً من المطبوعات، ولم ير من الحظوظ التي تساعد على التميّز في هذه المهارات، مثل موهبة إتقان اللغة العربيّة. إن بإمكان المثقف أن يرتجل بطلاقة، وأن يعبّر بقلمه عن أفكاره، وأن يكتب بخطه الجميل، ولكن ليس بمقدوره أن يبلغ مرتبة التفرّد والإبداع بدون معرفة أصول الكتابة وعلامات الترقيم والإعراب، فالتمكّن من اللغة العربيّة السليمة حلية التعبير والكتابة والمنطق والفنون. بعيداً عن التنظير، ستبقى الكواكب هي الكواكب، لكن الدنيا هي التي تتطوّر، وتطبيقات الإعلام تتعرّض للتغيير عاماً بعد عام، وعالم النشر يتجدّد، وثورة التقنية والمعلومات تمر بمراحل متسارعة من الاختراعات، وكما أن البرقيّة والإذاعة والتلفزيون والأقمار الصناعيّة كانت أعجوبة القرن الماضي، فإن في الآفاق آياتٍ أكثرَ ذكاءً ستظهر، مصداقاً لقول الحق سبحانه في سورة فصّلت (سنريهم آيَاتِنَا في الآفاق). وعلى أرباب صنعة الإعلام أن يتكيّفوا مع جديد العصر، ويُطوّعوه وفق قيَم المجتمع ومبادئه، ويُوظّفوه توظيفاً واعياً في خدمة الأمة. أما أنتم أَيُّهَا الجيل الواعد، فإن بلادكم تتباهي بعزيمتكم بين الشعوب، بما تقدمونه للوطن، في سبيل تعزيز وحدته، وصون أمنه، وصنع تطوّره.