تشهد العلاقات التركية الأميركية توتراً، بدأ مع عدم تجاوب واشنطن في ملف تسليم فتح الله غولن، زعيم جماعة «خدمة»، وتفاقم مع تعليق إصدار تأشيرات الدخول في شكل متبادل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. كما باتت تلك العلاقات في مهب الريح بفعل خلافات متجددة، منها دعم واشنطن لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري، الذي تصنفه تركيا إرهابياً فضلاً عن إدانة القضاء الأميركي نائب رئيس بنك «خلق» التركي، محمد هاكان أتيلا بتهمة التحايل لخرق العقوبات على إيران. التوتر في العلاقة التي تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر، وارتقت إلى مستوى «التحالف الإستراتيجي»، وصل الذروة بعدما فشلت الضغوط الأميركية، على تركيا للتركيز على قتال «داعش» بدل مهاجمة عفرين، حيث أعلن الجيش التركي في 20 كانون الثاني (يناير) 2018 تطوير العملية العسكرية في عفرين، التي أطلق عليها «غصن الزيتون». وبهذا الإعلان يضاف فصل جديد من فصول التوتر بين أنقرةوواشنطن. والأرجح أن عملية عفرين لم تكن وحدها المحرك لتصعيد الأزمة بين البلدين، إذ تعقدت العلاقة مع قرار أميركي بتقديم مزيد من الدعم لوحدات حماية الشعب الكردية، وعزم التحالف الدولي ضد «داعش» الذي تقوده واشنطن تأسيس «قوة أمن الحدود السورية» في شمال سورية وشرقها بهدف حماية الحدود مع تركيا والعراق. ويفترض أن تشكل قوات سورية الديموقراطية، وهي تحالف من المقاتلين العرب والأكراد، نصف تلك القوة التي ستصل لدى اكتمالها إلى 30 ألف عنصر، أما البقية فمن المجندين الجدد. غير أن قوات «قسد» تتشكل في معظمها من «وحدات حماية الشعب» الكردية، وهي فصيل تعده أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حركة تمرد للانفصال عن الدولة التركية منذ العام 1984. عملية عفرين قد تسفر عن ارتدادات سلبية تثقل كاهل العلاقة المضطربة بين أنقرةوواشنطن، وبدا ذلك في اتهام أنقرة الإدارة الأميركية بدعم التنظيمات الكردية بالأسلحة والعتاد، كما حذر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو من أنّ العلاقات التركية- الأميركية قد تتضرر على خلفية دعم واشنطن المستمر للميليشيات الكردية، والتوجه نحو بناء القوة الحدودية لحماية مناطق نفوذ «قوات سورية الديموقراطية» شمال شرقي سورية. وفي سياق متصل قالت الخارجية الأميركية في بيان لها «لا نعتقد أن العملية العسكرية تخدم الاستقرار الإقليمي، أو استقرار سورية أو تساهم في تبديد مخاوف تركيا في شأن أمن حدودها». سلوك واشنطن بإنشاء قوة الحدود السورية على حدود تركيا الجنوبية، دفع الرئيس أردوغان إلى التهديد ب «وأد هذه القوة في مهدها»، متهماً الولاياتالمتحدة بتأسيس «جيش إرهابي» على حدود تركيا. وتعهد أردوغان توسيع نطاق العملية العسكرية التركية الجديدة لتشمل مدينة منبج وبقية المناطق السورية الواقعة شرق نهر الفرات، والتي تخضع لسيطرة المقاتلين الأكراد، وهو ما يُعد تهديداً للدور الأميركي شرق الفرات حيث بات الأكراد الأداة الرئيسة للولايات المتحدة الأميركية في سورية لاستعادة نفوذها هناك بعد فترة من إمساك روسيا بمفاتيح إدارة الأزمة السورية. والواقع أن ثمة عوامل تدفع واشنطن للرهان على الورقة الكردية من بينها سيطرة وحدات «قسد» على نحو 25 في المئة من مساحة الأراضي السورية، وتحظى بقدرات عسكرية معتبرة على الأرض، وهو ما ساعدها على تحقيق» تقدم كبير في مواجهة «داعش» حتى أنهت نفوذه عند الضفة الشرقية لنهر الفرات في دير الزور. كما ترى واشنطن أن اتفاق تركيا مع روسياوإيران على تشكيل منطقة خفض التوتر في محافظة إدلب، ونشر قوات مراقبة فيها، أفشل خطة أميركية للتدخل في المحافظة من خلال قوات «قسد»، الأمر الذي انعكس بالسلب على العلاقات الثنائية بين تركياوالولاياتالمتحدة. ولذلك فثمة إصرار أميركي على دعم الوليد الكردي على رغم تنامي فرص خسارة حليفها الإستراتيجي التركي، وبدا ذلك في التوجه نحو تدريب عناصر قوة حدودية، تنتشر في نقاط على الحدود مع تركيا والعراق وعلى امتداد نهر الفرات إضافة إلى دعوة الخارجية الأميركية تركيا إلى ممارسة «ضبط النفس»، وتجنب سقوط «ضحايا مدنيين» في عفرين، و «ضمان أن تبقى عملياتها محدودة في نطاقها ومدتها». وإلى زيادة الدعم العسكري لعناصر «قسد»، تستهدف واشنطن توفير الموارد المالية لإعمار المدن المدمرة فضلاً عن إمكانية الاعتراف الديبلوماسي بهذه المنطقة التي تبلغ مساحتها نحو 28 ألف كيلومتر مربع. كما تسعى إلى تقوية المجالس المحلية المدنية التي تحكم المناطق المحررة من تنظيم «داعش». وإذا كانت وزارة الدفاع الأميركية، أكدت أن عفرين ليست ضمن نطاق عمليات التحالف الدولي في سورية إلا أن الترتيبات الأمنية التي قررتها واشنطن، قد تؤدي إلى ترسيم حدود مناطق النفوذ التي تسيطر عليها «قسد» وعزلها عن مناطق نفوذ النظام السوري، وهو ما يعنى تصاعد فرص الحكم الذاتي للأكراد وبناء نموذج سورية الفيديرالية، وهو ما ترفضه تركيا. في هذا السياق العام يمكن القول إن هناك مواجهة سياسية تركية - أميركية تلوح في الأفق، وسط تساؤلات عن قدرة تركيا على الدفع بأجندتِها الخاصة في سورية في مثل هذه الظروف ووسط دعم أميركي متزايد للميليشيات الكردية المسلحة YPG، بهدف رفع سقف الأهداف الأميركية، وبالتالي زيادة حصتها في سوق المعادلة السورية. وعلى رغم المصالح المشتركة بين البلدين، فإن فرص التصعيد تظل هي الأرجح، ويمكن قراءة ذلك في تكاثر القضايا الخلافية، وردود الأفعال التركية في شأن الموقف الأميركي من القوات الكردية في سورية، وتوجهها نحو عسكرة الأزمة مع عناصر «قسد» بعد أن أخفقت في ثني الأميركيين عن تسليح الأكراد ودعمهم لإنشاء كيان خاص بهم في شمال سورية وضمّ مناطق عربية إليه. على صعيد ذي شأن، فإن تقدّم الأميركيين خطوات جديدة نحو ترسيم حدود مناطق النفوذ الكردي، بالتزامن مع خوض تركيا عملية «غصن الزيتون» في عفرين، وتلويحها بالذهاب بعيداً للدفاع عما تعتبره تهديداً لأمنها القومي في إشارة إلى «منبج»، يكشف غياب فرص التفاهم بين أنقرةوواشنطن، وأن العلاقة التاريخية تقف في مهب الريح، خصوصاً مع انعطافة تركياً شرقاً نحو موسكو، والتماهي مع محور موسكوإيران في الأزمة السورية. * كاتب مصري