لم أكن بمزاج كاف هذا الصباح لا لتفكيك الصور ولا لشرح الرموز، فقط قليل من أمور اعتيادية لا بد لي من صوغها بغية لقائي بزملائي في العمل التطوعي الذي التزمته مرتين أسبوعياً منذ بداية الصيف الماضي في دار للمسنين. فزملائي لا يعرفونني بالأمس أو في الغد، هم يعرفونني اليوم فقط، لذا من حقهم أن أكون لهم كما ينتظرونني. لكن محاولتي هذه لم تمنعني في لحظة تخلّ من أصبّح عليهم ب «غونايدين» التركية عوضاً من «خودي مورخن» الهولندية، تداركتها سريعاً. لكن ذلك لم يخف أنني لست تماماً على ما يرام. تبلغني المشرفة بداية، أنه علي اليوم تنزيه سيدة إضافية في دار المسنين، لم أنزهها قبلاً. السيدة لم تغادر الدار منذ وقت طويل، لكنها رغبت في ذلك ما إن عرضنا عليها الفكرة. أصعد إليها وأكرر دق جرس الغرفة طويلاً. غالباً ما يتأخر هؤلاء المسنون في فتح أبواب غرفهم، فنروح نتهامس ونسترق النظر لنتأكد من أنه مجرد تأخر اعتيادي وليس أنهم متوعكون مثلاً هذا الصباح. تفتح السيدة الباب وهي تدفع عربتها التي تسند إليها ذراعيها. طلة بهية بمنتهى الأناقة، سترة زيتية فوق بنطال أسود وشعر فضي يخالطه بعض من صبغة ذهبية داكنة وطوق عقيق أخضر حول الرقبة يشد العنق ويضيئه. طلة تذكزني بنساء بعض أحياء حلب القديمة وهن يشترين الكعك في الجديدة أو يتبادلن الأحاديث اللطيفة في عوجة الجب. لم أستغرق في الذكرى كثيراً، فلا وقت ولا قدرة لذلك، في الغرفة أيضاً تفاصيل كثيرة أوحت لي بأن أمي أو إحدى نساء العائلة كانتا هنا، وليس سيدة هولندية غريبة. حملت السيدة إلى كرسيها المتحرك، ونزلت بها خروجاً إلى فضاء الدار، فطلبت مني جولة في الطبيعة وليس مع الناس، أسرني طلبها، فهذا سيسمح لي بالذهاب بعيداً أنا أيضاً، جسدياً وذهنياً. على الطريق، طلبت مني التوقف لتشتري كرزاً خمرياً، حملته بكيس ورقي وظل في حضنها طيلة رحلتنا إلى جانب حقيبتها الزرقاء. على كتف بحيرة وإلى كرسي أخضر استظللنا شجرة أليفة، وبدأت اسألها عن زوجها الذي أخبرتني أنه توفي قبل ثلاث سنوات، وعلى أثرها تعرضت لأزمة صحية قوية. لم تتحمل العيش مع ذكرياته وطلبت نقلها إلى دار المسنين. حين راحت تروي لي عن زوجها، أضاءت عيناها وتغيرت كل ملامحها، تقول لي: زوجي تعب كثيراً، أنا تعبت أيضاً، لكننا عشنا الكثير معاً وبحب جزيل، من دونه لم أكن لأحتمل كوابيس الحرب وذكرياتها. في سورية ثمة حرب أيضاً، أليس كذلك؟ وهي تروي ذلك كله وغيره الكثير، أردت احتضانها أو إخبارها أي شيء عني، لكني واصلت الأسئلة عن ماضيها، كأني هنا لمجرد إجراء مقابلة وليس لتبادل الحديث. في طريق عودتنا، رحت أدفع كرسيها ببطء بناء على طلبها وأنا أرمي السلامات والابتسامات على الناس في الطريق، كيس الكرز الخمري لا يزال في قبضتها كطفل تريد له ألا يكبر، لا أظنها اشترت الكرز لشهيتها له، بل فقط لأن زوجها كان يحبه ربما. في الغرفة طلبت مني وأنا أودعها أن أبقى لنغسل الكرز ونأكله، شكرتها بتودد وخرجت، فطلبها ليس اعتيادياً هنا، ولم أشأ أن أخطئ التصرف. لاحقاً، ندمت جداً على تصرفي هذا، أرى الآن طبق الكرز الخمري على الطاولة المزنرة بغطاء مطرز عتيق، أظنها غسلته ولم تأكله، أو أنها تناولت حبتين وتوقفت، ثم ربما شردت بعيداً الى أيام كان للكرز فيها طعم ومعنى. بعد استراحة قصيرة، تطلب مني المشرفة زيارة إحدى السيدات في غرفتها في الطابق الأخير لمعرفة ما تفتقده وما تحتاجه من نشاطات. ما إن لمحتها على باب غرفتها حتى تذكرتها، إنها التي تفقد الذاكرة مراراً، وكلما كنا نحكي تروح تفقدها أكثر. أتذكرها من لقائنا الأخير حين نظّمت في دار المسنين التي أتطوع فيها «عصرونية» نسائية هولندية على نية نساء العائلة البعيدات. كانت تحكي لي عن صباها وهي تحوك قطعة الكنفا التي بين يديها وتشرح لي عملها بشغف كبير، فأروح أبادلها الحديث وأحكي لها عن حالي فتسألني: هل أهلك معك؟ أقول لها: أنا هنا وحيد، أهلي في تركيا. فتقول: هذا مؤسف جداً. وكل خمس دقائق تعيد السؤال وأنا أعيد الجواب، حتى أنني شارفت على البكاء في المرة الأخيرة، لأكثر من سبب، لعل أولها أنني فعلاً وحيد وأهلي بعيدون. اليوم، وأنا أدلف إلى غرفتها بصحبة زميلة، تذكرتها جيداً، كانت واقفة بصحبة ابنة شقيقتها الخمسينية، أصرت العجوز على أن ندخل ونشرب القهوة. الغرفة مرتبة، من كلمة إلى كلمة وبمعية ابنة أختها، تروح تكشف عن حجم وحشة هائلة تعيشها، أولادها لا يزورونها، وكل من ساعدتهم في حياتها اختفوا. تقول: «أنا أريد أناساً من حولي، أنا تعبت. تعبت حتى من الخبز الذي تراكم في خزائني، لأني في كل مرة أنسى وأشتري خبزاً لا يلزمني»، وأجهشت بالبكاء. وليست الحالة التي تعاني منها هذه السيدة نادرة أو غريبة، بل هي حالة تتفاقم كل يوم أكثر في هولندا، وليس فقط لدى المسنين، بل أيضاً في أعمار متنوعة وحالات مختلفة، فالترويج الدائم لثقافة الاستقلال الذاتي والحرية الفردية انعكس على حياة الناس بإرادتهم ومن دونها، وحشة هائلة، بحيث ما عادوا يملكون زمام السيطرة عليها حتى لو أرادوا. بعد جلسة طويلة، تعهدنا فيها زميلتي وأنا برعايتها وبأننا سنزورها بانتظام ولن نتركها وحدها، تسألني هي وابنة أختها عن سبب تطوعي، فأجيبهما بأني أريد أن أرعى المسنات هنا لأني لا أستطيع رعاية أمي وجدتي البعيدتين، ولأني أريد أن أشكر هذا البلد الذي قدّم لي الكثير. تردّان بحرارة أنهما تحترمان ذلك جداً. تطمئن ابنة الأخت الى أن أهلي بأمان، لكن العجوز تسألني إن كان أهلي معي، فأجيبها لا، فتعود ترد بأن هذا الأمر مؤسف. مؤسف حقاً.