كثيراً ما نطالع ونشاهد، ذلك التراشق بين فئتين، هما بين طرفي نقيض، طرف اتهم بالانتماء إلى بعض الاتجاهات الفكرية والفلسفية المعاصرة، التي راجت ذكراً في الآونة الأخيرة، أو زعم هو ذلك، قابل هؤلاء نفر شددوا على أنفسهم ورموا هؤلاء بالتصنيف الظالم. من هذه التيارات والاتجاهات والفلسفات الفكرية المعاصرة التي يحلو للبعض التغني بها والدندنة حولها، أو اتهم بها، ما يعرف ب «العلمانية»، و«الليبرالية»، و«الحداثة»، التي يجمعها «عقدياً» القول بالفصل بين الدين والسياسة، والدعوة للحرية المتحررة، وتحكيم العقل على النقل، وأعظم من ذا وذاك إنكار العقائد الغيبية، هذه باختصار ما تؤمن به هذه الاتجاهات عند أهلها ومصدريها من الغرب، أمثال: ديكارت، وآدم سميث، ومالتوس، وريكارد، وبيكون، وغوستاف، وممن تلقف أفكارهم من العرب ك «أدونيس» صاحب الأفكار الملوثة، هذه الفلسفات نشأت كرد فعل لتسلط الكنيسة في العصور المظلمة لأوروبا، التي كان الإسلام فيها يعيش أزهى عصوره، وحضارته، حتى ألفت المستشرقة الألمانية «زغريد هونكة» كتابها المشهور «شمس العرب تسطع على الغرب»، ومن الأهمية بمكان أن يطلع عليه كل مثقف وتحتويه مكتبته. لو عدنا للوراء ونظرنا إلى أفكار المعتزلة وعقائدها، نجدها عين أفكار هذه الفلسفات الفكرية التي أشرت إليها، ما يعني أنها امتداد لفكر المعتزلة وصورة عصرية من صورها تتلون بها عبر العصور، القاسم المشترك بينها جميعاً تقديس العقل، كما هي حال «المتكلمين»، لذا أطلق على هذا الفكر «بالعقلانية والعصرانية والتحررية»، كذلك ما أطلقه البعض، ممن تبنى هذه الأفكار، على المستقيمين - من دون المتشددين - من مصطلحات ومسميات، كالأصولي والوهابي والسلفي والسروري والجامي، بل والأدهى صبغ الفلسفات الفكرية، كالليبرالية مثلاً، بطابع إسلامي، عندما شاع أخيراً مصطلح «الليبرالي الإسلامي، أو الليبراليون الإسلاميون، أو الليبراليون السعوديون، أو العلمانيون السعوديون! وهكذا...»، كتقسيم وتصنيف آخر - أسود - داخل المجتمع، غير مقبول ألبته! موقف العلماء المعتبرين من هذه التوجهات واضح وجلي من دون أدنى جدال، وكذلك الموقف نفسه من هذه الفلسفات المعاصرة، والتصنيفات الشيطانية، فالإسلام دين الكمال والشمولية، ومذهب أهل السنة والجماعة، الطريق الواضح المستقيم (من رغب عن سنتي فليس مني)، هذان الأمران كفيلان بالعض عليهما بالنواجذ وعدم الالتفات لغيرهما، ويغنيان عن مصطلحات غريبة، غربية دخيلة، وليس الهدف من هذا المقال، بيان ذلك والتوسع فيه، فهذا ليس بابه، وقد حصحص الحق في بيانه، ولكن الهدف إعلان الموقف المحايد بين هؤلاء المتبنين لهذه الفلسفات والتوجهات الفكرية والمدافعين عنها، إما اعتقاداً أو إعجاباً بها، وبين من أعلن الحرب عليهم، ممن غلّب جانب الغلظة وإصدار الأحكام الجائرة، كالقول هذا «علماني»، وهذا «ليبرالي»، وهذا «حداثي». لقد لفت نظري هذا التباهي من البعض، خصوصاً ممن رفع شعارات هذه الاتجاهات والدفاع عنها، وزعم الواحد منهم بصراحة أنه «ليبرالي» - كما شاهدته بقناة العربية - ويدافع عن توجهه بصراحة من دون استحياء! وعلى رغم هذا كله، ومن باب الاعتذار لهؤلاء، لازلت غير مقتنع بهكذا أسلوب وتوجه، ومن الصعوبة بمكان اتهام واحد بعينه، نشأ وترعرع وتعلم في بيئة إسلامية، يمكن أن يقال عنه بأنه ليبرالي أو علماني أو حداثي، بالمفهوم الغربي الصرف، مهما بلغت درجة الخلاف معه، وقد يكون هذا الطرح منه بهذا الأسلوب - في نظري - ناتج عن جهل في الماهية والمعتقد لهذه الفلسفات، وأحسب أن شعار هذه الفئة «خالف تُعرف!»، وهي تسعى لمزيد من الحرية، التي تدعو لها هذه الفلسفات والتيارات، ولكن بطريقة ممجوجة، بدليل أطروحاتها الغامضة، وهو بالتأكيد جهل بمعتقدات هذه الفلسفات، وبضاعة هؤلاء مزجاة، وما أحرى بالفئة المقابلة، التماس العذر لهؤلاء الذين أعتبرهم مساكين، يعيشون أزمة ثقافية، وإشكالية في المصطلحات، ويلزم تجنب رميهم بالتهم والتصنيف، وإطلاق الأحكام التعسفية عليهم، ونعتهم بالأوصاف المرفوضة. ما أجدر بمدعي هذه الفلسفات والاتجاهات بدرس معتقداتها عند أهلها ومصدريها حتى تتكون لديهم خلفية ثقافية واسعة عما يتحدثون عنه، وتتبين لهم الحقائق كما هي، لأن واقع هؤلاء في نظري، يشي بجهلهم بماهية هذه الفلسفات والاتجاهات الفكرية - كما قلت - كما يلزمهم مراعاة مشاعر الغير، والحذر من التعميم بالقول هذا «أصولي»، وهذا «وهابي»، و...، وكم نحن في هذا الوقت بأمس الحاجة إلى توخي الحذر من إطلاق التصنيفات الهوجاء المتبادلة والتراشق بها، حفاظاً على لحمة المجتمع وتماسكه، لا سيما والأحداث تعصف بمن حولنا، والعدو يتربص، وأظن أن نظام المطبوعات والنشر الجديد، كفيل بالحفاظ على هذه المبادئ، وتمت صياغته بما يحفظ الحقوق ويضبط الحريات ولا يقيدها، ويحاصر هذا التراشق الدخيل على الحراك الثقافي المطلوب. [email protected]