عندما نجحت ثورة 25 يناير في مصر، وأعطت أنموذج للثورة السلمية البيضاء التي لم يرق فيها دم، ولم يحدث صدام بين الأطراف المختلفة التي تكون الشعب المصري، وقد أبهرت العالم، خصوصاً الدول التي تدعي أنها معقل الديمقراطية في الغرب، بسلميتها وهدوئها، وحتى عندما قورنت بالثورات الذي غيرت مجرى التاريخ كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية والثورة الإيرانية وغيرها من الثورات، حيث امتازت تلك الثورات بسفك الدماء والقتل حتى أن أحد قادة الثورة الفرنسية ماكسمليان فرانسوا روبيسبير قال كلمته المشهورة "الثورة أكلت أبناءها" بعد أن أعدمت محكمة الثورة في 29 نيسان 1794 خطيب الثورة دانتي وأعدمت كذلك كاتب وشاعر الثورة وفتاها المدلل كاميه ديمولا، ولكن فيما يتعلق بالثورة المصرية، بدأت بعض المنغصات والمؤشرات التي تقلق المتابع العربي والخائف على مصير الثورة وعلى مستقبل الشعب المصري. لقد كان لأحداث إمبابة الأسبوع الماضي بين الأقباط والمسلمين، الأثر السلبي على الثورة المصرية، حيث كانت حصيلة الأحداث مقتل 12 شخصاً وجرح أكثر من 200 شخص، وإحراق كنيستين – العذراء ومار مينا - مما استدعى تدخل الجيش والقبض على العديد من المشاركين في هذه الأحداث من الطرفين وتقديمهم للمحاكمة. لكن هذه الإشارة التي حصلت في إمبابة، تبعث على الخوف والقلق على مستقبل الثورة في مصر، وكذلك على استقرارها وأمنها، فالأعداء لا يريدون خيراً لمصر. ما يميز المجتمع المصري هو التجانس الاجتماعي، الذي يعد أحد خصائصه، وكذلك التسامح بين مكونات المجتمع المصري كافة، فمن المعروف أنه ينقسم من حيث الديانة إلى ديانتين رئيستين، هما المسلمون، وهم الأغلبية الساحقة، والأقباط المسيحيون، والمسلمون ينتمون إلى طائفة واحدة هي الطائفة السنية، والمسيحيون إلى الطائفة القبطية، ولذلك هناك شبه إجماع على أن التقسيم الطائفي بين أبناء الطائفة الواحدة ليس له وجود، أما العلاقة بين المسلمين والأقباط فكانت مثالية على مر التاريخ، مما يجعل المراقب يحتار حول من يحرك النزاع أو المواجهة الطائفية بين الأقباط والمسلمين في مصر. بنظرة تحليلية فاحصة لما يحدث في مصر، نجد أن الأسباب متعددة، فمنها ما هو داخلي والآخر خارجي، فالأسباب الداخلية لهذا العنف الذي يعصف بين الفينة والأخرى بمصر هو نتيجة صعود بعض المتطرفين من الجهتين سواء المسلمين أو الأقباط، فالتطرف دائماً يولد العنف، والعنف يقود إلى المواجهة واستخدام القوة بين الطرفين ومن ثم صعود هؤلاء المتطرفين من الجهتين وقيادتهما للعنف الطائفي، وتراجع لغة التسامح والتعايش، فكل مجموعة تحاول فرض إرادتها على الأخرى، ويتراجع قادة التسامح والتعايش، وتصبح الساحة للمتطرفين، وهذا هو الخطر الحقيقي لمستقبل مصر وثورتها. كما أن بعض المنتفعين من النظام السابق يمكن أن يكون لهم دور بإذكاء الاقتتال والمواجهة وإثارة الفتنة الطائفية في مصر في هذا الوقت بالذات، وهو ما تشير له أصابع الاتهام من قبل المراقبين بغية جعل الناس يترحمون على النظام السابق. أما الخارجي فاعتقد أن الدولة التي لها مصلحة في زعزعة استقرار مصر هي إسرائيل، لأنها الخاسر الأكبر بعد نجاح الثورة، وهو ما تابعه الجميع من تصريحات لمسؤولين في الحكومة الجديدة، وقادة الثورة، حول السياسة المصرية المستقبلية تجاه إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي، وأكبر دليل هو المصالحة الفلسطينية التي تمت على أرض مصر، وتهديدات إسرائيل لعباس في حال استمر في هذه المصالحة، ستعاقبه اقتصادياً وسياسياً. كما أن تصريحات وزير الخارجية المصري نبيل العربي، حول فتح معبر رفح، وأن إغلاقه من الحكومة السابقة كان عمل مشين، أظهر بشكل جلي توجه الحكومة المصرية تجاه العلاقات مع إسرائيل. سياسياً، حذر عدد من السياسيين المصريين والخبراء، وعلى رأسهم أمين جامعة الدول العربية عمرو موسى من انعكاسات أحداث إمبابة على الثورة المصرية، وعلى الاستقرار العام في مصر، لذلك هذا القلق له ما يبرره بشكل قاطع، خصوصاً أن الأوضاع السياسية الإقليمية والدولية، لا تساعد على التهاون في حل موضوع الفتنة الطائفية في مصر، فالجميع يراقب ما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا من تطورات، وتدخل دولي في ليبيا واستعداد للتدخل في شؤون اليمن وسوريا إذا تطورت الأحداث فيها بشكل سيئ. أما اقتصادياً، لقد خسر الاقتصاد المصري أكثر من 70 ملياراً، خلال فترة الثورة، وتناقص احتياط العملات الصعبة إلى 27 ملياراً، حسب مصادر اقتصادية، وكل هذا بالطبع سيؤثر على نمو الاقتصاد المصري وتعافيه، لكن من المعروف أن الاقتصاد دائماً مرتبط بشكل وثيق بالاستقرار السياسي، وهو ما تحتاجه مصر الآن، ويجب أن يعمل عليه كل المخلصين والعقلاء في المجتمع المصري. تاريخ مصر الحضاري، يظهر مدى تسامح شعبها والعيش بسلام، مما جعله يؤسس لحضارة تعد واحدة من أقدم الحضارات في التاريخ، ولذلك نتمنى أن تسود لغة التسامح والحوار السلمي بين مكونات الشعب المصري، حتى يفوتوا على الكيان الصهيوني، فرصة التدخل من خلال الفتنة بين أبنائه، والعمل على تعزيز الاستقرار والعيش بسلام ونشر الأمن من أجل الانطلاق وبناء الدولة التي نتمنى أن تكون أنموذج للديمقراطية والحرية والشفافية، والتسامح والتعايش، وتعيد لمصر دورها المؤثر والقوي في المنطقة عربياً وإقليمياً ودولياً. لا أحد يريد لمصر أن تنزلق إلى فتنة طائفية تفتح الباب أمام التدخل الخارجي، بحجة حماية طائفة من بطش أخرى، فالدول الطامعة في زعزعة استقرار مصر وعلى رأسها إسرائيل تنتظر هذه الفرصة الثمينة لتظهر للعالم أن الشعوب العربية لا تستحق الديمقراطية، ولا هي أهل لها، ولذلك الجميع يخشى على ثورة مصر وعلى استقرارها، فهي امتازت بالسلمية، والحضارية في طرحها، وأطلق عليها أنها ثورة بيضاء، فهذا ما يريده كل عربي لمصر وشعبها. لا نريد أن نقرأ يوم ما في المستقبل أن الفتنة أكلت الثورة في مصر لا سمح الله. * أكاديمي سعودي.