من النهاية، تبدأ «طيف الحلاج» (دار الساقي)، الرواية الرابعة للكاتب السعودي مقبول العلوي، فالشخصية المحورية التي تغلّب المحبة على الانتقام في البداية النصّية للرواية هي نفسها التي تُضرم النار في وسيلة الانتقام في نهايتها، وبذلك، تتّخذ الرواية مساراً دائريّاً متكسّراً، تلتقي فيه البداية والنهاية في نقطة واحدة. وبين البداية والنهاية النصّيّتين، شبكة من العلاقات الروائية التي تتحرّك بين: التاريخي والراهن، الماضي والحاضر، الواقعي والغرائبي، اليقظة والحلم، في اطار مجموعة من تقنيات السرد الروائي المتنوّعة. ونخلص من الشبكة والإطار إلى أن التاريخ يعيد نفسه بوجهيه البشع والجميل. في بداية القرن الرابع الهجري، تُنزل السلطة السياسية حكم الصّلب بالحلاّج، الشخصية التاريخية المعروفة، بذرائع دينية مستندة إلى خلفيات شخصية، فتُودي بحرية المعتقد. وفي القرن الخامس عشر الهجري، تسحب السلطة الأكاديمية شهادة الدكتوراه التي تتّخذ الحلاج موضوعاً لها من نوري ابراهيم، الشخصية الروائية المحورية، في الرواية، بذرائع دينية مستندة إلى خلفيات شخصية، فتُودي بحرية البحث العلمي. وهكذا، يفصل بين الواقعتين، التاريخية والروائية، أحد عشر قرناً لا تغيّر كثيراً في العقول والأفكار. يقول الكاتب على لسان الراوي: «لا تزال تعيش بيننا العقول والأفكار ذاتها والفكر الأحادي عينه الذي يقيس كلّ شيء بمنظور رمادي عقيم غير قابل للحركة والتنوّع والتطويع» (ص151). وهنا، يعيد التاريخ نفسه بوجهه البشع. غير أن تماهي الباحث بموضوع بحثه، وتقاطع الشخصية الروائية مع التاريخية، وتغليبها المحبة والغفران على الانتقام تشكّل استعادة للتاريخ بوجهه الجميل. تقوم الرواية على حكايتين اثنتين، الحكاية الروائية الراهنة، والحكاية التاريخية المستعادة. والحكايتان، إذ تستدعي إحداهما الأخرى وتتقاطع معها، تتشابهان في: بعض الأسباب والنتائج والشخصيات والمواقف، وبناء العام على الخاص، وتحكيم الشخصي في الموضوعي، واستخدام الدين وسيلة للصعود وتصفية الحسابات. في الحكاية الروائية الراهنة، تدور الأحداث بين ثلاث شخصيات رئيسة، تنتظم في علاقات غير سويّة، على رغم القرابة التي تربط بينها، تروي كلٌّ منها الحكاية من منظورها الخاص الذي يعكس رؤيتها للأمور، وتتمخّض عن ذلك مجموعة من العلاقات الروائية بينها تقوم على التحاسد والحقد والكره، على تفاوت في هذه المشاعر بين شخصية وأخرى. فالح ونوري ابنا عم يتحدّران من القرية ذاتها والعشيرة ذاتها، تجمع بينهما ذكريات طفولة وطيش وشباب ومغامرات مشتركة وتسكّع في الملاهي الغربية وعلاقات عابرة، يمارس فالح دور الوصي على نوري بحكم فارق العمر بينهما، ويضمر في نفسه حسداً له ويرى فيه منافساً دائماً له، حتى إذا ما اقترن نوري بحليمة، طليقة فالح منذ سبع سنوات، تكون القشة التي قصمت ظهر البعير، فيظهر فالح المضمر، يعلن حرباً شعواء على ابن العم، يرسل لحليمة صوراً فاضحة لنوري كان التقطها له في مغامراتهما الجنسية المشتركة متسبّباً في انهيار زواجه، يشي به لدى الجامعة التي يعمل فيها رئيس قسم بشهادة مشتراة بتهمة تمحور رسالة الدكتوراه التي أعدّها حول زنديق كافر هو الحلاج، يتدبّر مستغلاًّ موقعه وعلاقاته، إجراء محاكمة صوريّة له تؤدّي إلى سحب الرسالة منه، وفصله من العمل في الجامعة. ويتبيّن من سلوكيّات هذه الشخصية واليوميات التي كتبتها أنّ صاحبها مصاب بالعجز الجنسي، والمرض النفسي، والاختلال العقلي. وهكذا، يتمّ تحكيم الشخصي في العام، ويُستخدم الدين في تصفية حسابات شخصية. في المقابل، يبرز نوري باحثاً غارقاً في موضوع بحثه إلى حد التماهي، فيبدو مسكوناً بالحلاّج، يهلوس باسمه، يحلم به، يدخل في نوبات متخيّلة طويلة معه، بفعل الحبة البرتقالية التي يتناولها، فتكثر الأحلام المصطنعة في الرواية، ويطول بعضها ليبلغ أربع عشرة وحدة سردية تغطي إحدى وخمسين صفحة (من 195 إلى 246)، وتتخلّله كوابيس وأحداث غريبة عجيبة، ما يطرح الصحّة العقلية لهذه الشخصية على بساط البحث، الأمر الذي يشخّصه الطبيب النفسي باضطراب في التفكير والوجدان، ويسمّيه الفصام أو السكيزوفرينيا (ص154). وخلال انخراطه في البحث وموضوعه، بفعل إرادي أو مَرَضي، يعيد نوري محاكمة الحلاج بمقاييس العصر مستعيناً بشهود تاريخيّين، ويكتب مخطوطته بإيعاز منه، فتتشكّل من ذلك الحكاية التاريخية في الرواية. وعلى حالة نوري النفسية والأذى الكبير الذي لحق به من ابن العم فالح، فإنّ تأثّره بالحلاّج وتماهيه به بلغ حد العدول عن الانتقام إلى المحبة والغفران والتصالح مع الذات والتحرّر من عوالق الدنيا، فهو حين تقع بين يديه يوميات فالح التي يعترف فيها بعجزه الجنسي ومجونه وشراء شهادة الدكتوراة، وحين يصله المظروف الذي يحتوي على صور فالح في أوضاع مريبة، لا يتورّع عن إشعال النار فيهما متحرّراً من خمسة وعشرين عاماً من المشاعر السلبية المتناقضة، مؤثراً الصفح على الانتقام، في لحظة تماهٍ بموضوع رسالته، وارتقاء إلى مستوى قريب من معلّمه. وهو حين يعرض عليه مدير الجامعة إعادته إلى العمل وإعادة الشهادة إليه مقابل إسهامه في إطفاء الضجة التي أثارتها وسائل التواصل الاجتماعي بعد خمسة وعشرين عاماً على الواقعة، يرفض هذه المساومة الرخيصة، وتكون لحظة الراحة الكبرى عنده حين يضغط على زر الإرسال مرسلاً بحثه إلى الناشر للبدء في طباعته. وهنا، نتساءل: هل يعقل أن تصدر مثل هذه المواقف المتقدّمة عن شخصية مصابة بالفصام والهلوسة والدخول في نوبات حلمية طويلة؟ ألا ينتقص ذلك من واقعية الشخصية؟ بين هاتين الشخصيتين، تبرز حليمة رمزاً للمرأة المغلوب على أمرها في مجتمع ذكوري لا تقتصر فيه العقلية الذكورية على الرجال بل تتعدّاهم إلى النساء أنفسهنّ (الخاتنة والأم)، فسقوط نوري عليها، بينما يلعبان في ظلّ البيت ذات ضحى، على مرأى من الخاتنة المتوحّشة، يؤدّي إلى ختانها مرة ثانية وتشكيكها، ما يسبّب لها آلاماً مبرّحة، ويترك في نفسها جرحاً غائراً وخوفاً من الزواج. وإكراهها على الزواج من ابن خالتها، الدكتور فالح، المشهور في القرية والبلدات المجاورة، واكتشاف عجزه وحقارته وخسّته لاحقاً حين أقدم على اغتصابها، يؤدّيان إلى طلاقها منه. وقبولها الزواج من نوري، رفيق الطفولة، بعد تردّد، ينتهي بالطلاق مجدّداً، بعد تسلّمها صوراً فاضحة قديمة له في أوضاع مريبة، دسّها فالح لتخريب زواجهما. وهكذا، تجمع بين الرضوخ والتمرّد والتسرّع في آن، وتعكس صورة المرأة في المجتمع الذكوري. في الحكاية التاريخية، يستعيد العلوي سيرة الحلاج، ما يفتح الروائي على السِّيَري، وهو يفعل ذلك من خلال جعله موضوعاً بحثيّاً لإحدى الشخصيّات، نوري، الذي يكتشف أهميّته، ويغرق فيه، ويتماهى به، ويتقمّصه في بعض المواقف. نوري يدرس الحلاج طوعاً، يلتقيه بفعل الدواء الذي يتناوله علاجاً لحالته النفسية، يستعين بالتاريخ ويعيد محاكمته في ضوء مقاييس العصر، يكتب سيرته بإيعاز منه، وعلى لسانه بصيغة المخاطب، ويستند إلى شهود تاريخيين، من أتباع وتلاميذ وخصوم وأعداء، فتشكّل الدراسة والشهادة والمحاكمة والكتابة مصادر الحكاية التاريخية المستعادة، وفيها: ولادة الحلاج في الطور من بلاد فارس لأب يعمل في حلج القطن، انتقال الأسرة إلى واسط وانتسابه إلى مدرسة القرّاء، ذهابه إلى تستر وتلقّي العلم على سهيل التستري، موت والديه وحزنه عليهما، رحيله إلى البصرة وتلقّي العلم على أبي عمرو المكّي، قيامه بأداء فريضة الحج مرّات عدّة، زواجه من أمّ الحسين التي كانت عين أستاذه عليها ليتّخذها زوجة ثالثة له ما يفسد العلاقة بينهما فيقوم الأستاذ بإيغار ديوان الخليفة عليه- وهنا يتقاطع الحلاج مع دارسه نوري الذي يؤدّي زواجه بحليمة إلى إلحاق الأذى به- قيامه برحلة وعظيّة في بلاد فارس لستّ سنوات، وعودته بعدها إلى بغداد ليجد أعداءه بانتظاره، فَيُسجَن مرّات عدّة يكتب خلالها كتباً تحظى بالانتشار، وتكون نهايته الفاجعة. وهنا، يشكّل التاريخي مادة للروائي، يدخل معه في حوار جدلي، يغتني فيه الروائي بالمضمون التاريخي، ويفيد التاريخي من فنّيّة الروائي وروائيّته. هذا التجادل بين التاريخ والرواية، يوفّر له العلوي تقنيات سردية متنوّعة، فيجمع بين الراوي العليم والراوي المشارك مع ترجيح للثاني على الأول، وينوّع في صيغ الكلام بين المتكلّم والمخاطب والغائب، ويجاور في روايته بين الرواية والسيرة واليوميات والتاريخ، فيقدّم نصّاً متنوّعاً، حيّاً، غنيّاً، يليق بالسيرة التي يتناولها، ويستحق بذل الجهد والوقت في القراءة.