وديع فلسطين (1923)؛ شيخ الأدباء؛ وقديس الصحافة؛ سارت حياته على غير ما كان يُخَطِّط له ويريد؛ فاشتغاله بالصحافة؛ جاء قضاءً وقدراً؛ واحترافه الأدب جاء على غير هواه؛ وأنَّ ما أحبَّه وعشقه؛ وتمنّاه؛ هو العلوم؛ لا الأدب. فقد ظل؛ وهو طالبٌ في المدارس؛ يكره اللغة العربية؛ بسبب أستاذها وطريقته المنفرة التي جعلت النحو صخرةً؛ يعجز الصغار عن الاقتراب منها؛ فضلاً عن حل ألغازها. والسؤال هنا: تُرى؛ كيف تعملَّق وديع فلسطين في الأدب والصحافة؛ وهو لا يريدهما؟! وهل هو إذاً صورة مصغَّرة عن عبّاس محمود العقّاد؛ الذي بزَّ الجميع في اللغة، والأدب، والنقد، والشِّعر، والتاريخ، والأديان، والحضارة، والفلسفات، والعلوم؛ فلمّا سئل عن أحب هذه الأشياء إلى قلبه وعقله، أجاب: «العلوم عموماً؛ وبالأخص هندسة الصواريخ، وعلم الخلايا والأنسجة». إذن؛ فوديع فلسطين ما اختار لنفسه الأدب؛ ولا الكتابة عن الأعلام؛ بل إن صحيفة «الحياة» اللندنية قبل مطلع الألفية الثالثة بسنواتٍ قليلةٍ؛ هي التي طلبت منه؛ أن يكتب لها عمَّن لقيهم من أعلام عصره؛ فكانت هذه السلسلة الفريدة. فلولا هذا الاستكتاب؛ لَما كانت هذه السياحة؛ وذلك النغم؛ وتلك الكوكبة من السِّيَر الفنية. وهو في زحمة بحثه عن لقمة العيش؛ وافق؛ على كتابة مؤلفاتٍ تظهر في العلن؛ وليس عليها اسمه، فلمّا سئل عن ذلك؛ قال بعفويةٍ تامةٍ: «كتبتها لأصدقاء؛ نظير أجرٍ؛ في وقتٍ عانيتُ فيه من شبح البطالة». ذات يوم؛ سألتُه عن علاقته بنجيب محفوظ؛ فقال بحدةٍ ونرجسيةٍ: «أنا مَن عرَّف الأدباء بنجيب محفوظ؛ وقت أنْ كان مغموراً؛ وتنبّأت له بالعالمية قبل فوزه بنوبل بأكثر من أربعين عاماً! وبعد فوزه بنوبل؛ سأله السويديون: هل قرأت شيئاً مِن الأدب السويدي؟! فأجاب بثقةٍ: «نعم؛ فقد قرأت في صدر شبابي مسرحية «الأب» لستراندبرغ، وهي من ترجمتي». وهذا مفتاح؛ لا يعرفه مَن كتب عن وديع فلسطين؛ فقد احترم المرأة؛ زوجاً، وأديبةً، وإنسانةً؛ مهيضة الجناح! فلا غرو؛ أن كان تألقه الواضح؛ حينما أبدع عن حوّاء، ونضالها من أجل الحرية والنهضة؛ فكتب ودافع عن روز أنطون حداد، ومي زيادة، وهدى شعراوي، وزينب الوكيل، وفدوى طوقان، ولميعة عبّاس عمارة، وسلمى الحفّار الكزبري، وسلمى الخضراء الجيوسي، وصافي ناز كاظم، وجاكلين خوري، وإيميلي نصرالله، وجليلة العلايلي، وجليلة رضا، ونعمات أحمد فؤاد، وعاتكة الخزرجية، ونازك الملائكة، وغيرهن من شهيرات الأدب والفكر والصحافة. وبين آونةٍ وأخرى؛ أراه؛ وأسمعه يقول بحرقةٍ وألمٍ: «حملتُ على كاهلي سِيَر أعلام القرن العشرين؛ وحفظت روايات ونوادر شعراء المهجر؛ وألزمتُ نفسي الإجادة في كل شيء؛ ولم أجد من قومي إلا العقوق والصدود! فحالي؛ هو قول المعري: الحمدُ للهِ؛ قد أصبحتُ في دعةٍ/ أرضَى القليلَ ولا أهتمُّ بالقوتِ/ لكنْ؛ أُقَضِّي مُدَّتي بتقنُّعٍ/ يُغْنِي وأفرحُ باليسيرِ الأروحِ». لا؛ بل بيت صديقه الشاعر محمود أبو الوفا: «أُريدُ وما عسى تُجْدِي أريدُ/ على مَنْ ليس يملكُ ما يُريدُ»، أو قول صديقه شاعر القطرين خليل مطران؛ وهو يندب حظه، وأيامه: «أمّا الجزاءُ؛ فإني استوفيتُ/ فيهِ فوقَ وزني/ في الحاضرِ؛ استسلفتُ ما/ سيقولُه التالونَ عني».