لا يُسمح للفرد داخل القبيلة بأن يحمل ملامح تتنافر مع ملامح قبيلته، التمايز يخلق الفرقة، والتجانس يزيد اللحمة، في مجتمع القبيلة تتشابه السلوكيات، والأزياء، والكلام، والطعام، والأفكار، والأذواق، انظر إلى بدوي اليوم وبدوي الأمس، هل تجد اختلافاً بينهما؟ إننا لو غسلنا مساحيق الحضارة وأصباغها عن وجوهنا فسنجد القبيلة تستوطننا، والبداوة تعشعش تحت رؤوسنا، تحت جلد هذه القبلية يسكن ديكتاتور لا نراه. دكتاتور يقضي بالنفي، وربما باستباحة دم من يخرج عن القطيع. لا يحق لك في مجتمع القبيلة أن تحلق خارج السرب، يجب أن تشبههم في التزامك بالعادات نفسها، وفي اعتناقك للأفكار نفسها، وفي ارتدائك للأزياء نفسها، وفي تعلقك بالألوان نفسها، وفي عشقك للفنان نفسه. استبداد المجتمع وأنانيته لا يؤديان إلى تمييع السمات الفردية فحسب، بل يخلقان طبقة من المنافقين والمرائيين. ما ذكرته أعلاه لا ينفي أن المجتمع لا يتبدل، إن مجتمعنا اليوم يختلف عما كان عليه قبل عشرة أعوام، ومجتمعنا قبل عشرة أعوام يختلف عما كان عليه قبل 20 عاماً، التغيير الذي يطرأ على المجتمع مستمد في الغالب من قدرة المجتمع المالية على صنع التغيير، نحن نبدل دورياً أجهزة الجوال، والسيارات، والحواسب الآلية، والأزياء، عندما يطرح في الأسواق منتج استهلاكي جديد يتكالب الناس لحيازته حتى لا يشعر أحدهم وكأنه معزول عن البقية، هذا النمط من التغيير الوهمي لا يمس إلا قشرة المجتمع الظاهرية، أما طبيعة المجتمع فتبقى عصية على التغيير. إن السعار الاستهلاكي يثير شهية المجتمع مادام يمتلك القوة الشرائية التي تؤهله لإشباع جوعه الاستهلاكي، ولكن ماذا عن التغيير الفكري؟ هل يملك المجتمع الشهية للتخلي عن نماذجه الفكرية القديمة؟ بالتأكيد لا، مجتمعنا لا يمانع أبداً في اقتناء أحدث التقنيات التكنولوجية لكنه يقاوم استيراد الأفكار التي جلبت له أحدث التقنيات. هذا التناقض قد يكون مدخلاً لإضاءة موقف مجتمع القبيلة تجاه ثلاثة نماذج إنسانية: المرأة المتمردة والمفكر المستنير والإرهابي، ما الجامع بين هذه النماذج الثلاثة؟ إنه التغيير. المرأة المتمردة والمفكر المستنير والإرهابي يجمعهم السخط على المجتمع والرغبة في إحداث التغيير. الفارق بين النماذج الثلاثة هو اتجاه التغيير. المرأة المتمردة والمفكر المستنير يدفعان بالمجتمع إلى اليسار، أما الإرهابي فيدفع بالمجتمع إلى اليمين. المرأة المتمردة تربك القبيلة وتكسر إيقاعها الرتيب، إنها تتمرد على أغلال العادات والتقاليد التي ترسف فيها، إن السكوت عنها سيدفع بأترابها إلى التجرؤ على كسر القيود. خروج المرأة من قبضة العادات والتقاليد المطلية بلون الدين سيُحدث زلزالاً داخل القبيلة وسيُهشم بناءها الداخلي وأنساقها التراتبية. المفكر المستنير أيضاً يثير مخاوف القبيلة، كما تفعل المرأة المتمردة، المفكر المستنير يصارح قبيلته بعيوبها، ويكشف لها عن مشكلاتها، وينثر الملح على جروحها المفتوحة، ويضع المسلمات التاريخية على طاولة النقد، المفكر المستنير، كالمرأة المتمردة، يهدد ركود قبيلته، إنه يحمل الرعد والبرق في كلماته وأفكاره. أما الإرهابي فهو لا يقل عن المرأة المتمردة والمفكر المستنير سخطاً على حال القبيلة، الفارق بينه وبينهما أنه يريد مزيداً من الأغلال، ومزيداً من الأقفال، ومزيداً من الجدران، إنه لا يريد الحفاظ على بناء القبيلة القديم فحسب، بل يريد العودة بها إلى لحظات التكوين. إن المرأة المتمردة والمفكر المستنير لا يملكان غير الصوت والقلم سلاحاً في مطالبتهما بالتغيير، أما الإرهابي فهو لا يعرف غير لغة القتل والدم وسيلة في مطالبته بالتغيير. إن ما يدعو للغرابة والتعجب، أن القبيلة لا تتسامح مع المرأة المتمردة ولا المفكر المستنير في مطالبهما، على رغم أنهما لا يشهران سيفاً ولا يتمنطقان بحزام ناسف، ولكنها تظهر قدراً عظيماً من التسامح والتعاطف مع الإرهابي، على رغم أنه يحمل التفجير والموت لها، لماذا؟ لأن المرأة المتمردة والمفكر المستنير يهددان سكون القبيلة، ويتحديان تعنتها، ويزعزان خمولها، أما الإرهابي فهو على عكسهما يطالب بمزيد من القيود والأغلال وبالمحافظة على الأنساق القديمة من التهدم والذوبان. المرأة المتمردة والمفكر المستنير اللذان لا يحملان بندقية يجدان من أكثرية أفراد القبيلة اللعن والشتم والتفسيق والتخوين والاتهامات بخدمة أهداف أجنبية! أما الإرهابي الذي يحمل الموت معه أينما حل وارتحل فيجد من أكثرية القبيلة الدعوات الصادقة بالهداية والأماني الحارة بالرجوع إلى طريق الحق ونبذ العنف! * كاتب سعودي.