في «ساحة التغيير» أمام جامعة صنعاء، التي أضحت اليوم من أبرز معالم العاصمة اليمنية، يعيش عشرات الآلاف من الشباب المعتصمين، المطالبين بسقوط النظام الحاكم في اليمن ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح عن منصبه. هؤلاء الشباب جاؤوا من مناطق شتى، ولهم ثقافات متعددة، واهتمامات مختلفة، وقبل تسعة أسابيع حطوا رحالهم فيها ونصبوا خيامهم عليها، وفيها التقى الجميع، رجالاً ونساء، بنفسيات نقية وعقليات لا تعترف بتراكمات الماضي وموروثاته، ولا تفاعلات الحاضر، وبذلك تجاوزوا الانتماءات المذهبية والصراعات السياسة، ليؤسسوا مجتمعهم المدني الجديد والمتماسك، معلنين للعالم توحدهم الايجابي خلف هدف واحد، هو «إسقاط النظام ورحيل رئيسه عن الحكم». في الأيام الأولى لبدء الاعتصام، كان العدد محدوداً، ومكان الاعتصام لم يتجاوز المساحة المواجهة لبوابة الجامعة، ومع مرور الأيام تمددت الساحة في كل الاتجاهات، واتسعت مساحتها التي تكتظ بمئات المخيمات، حتى أصبحت تغطي الخط الدائري من جولة مذبح حتى كلية الآداب بطول يقدر بثلاثة كيلومترات تقريباً، إضافة إلى أجزاء كبيرة من الشوارع المتفرعة من الخط الدائري الممتد من الشمال إلى الجنوب، وأجزاء واسعة من الدائري الشمالي، وشارع العدل الممتد من أمام بوابة الجامعة حتى ميدان التحرير في قلب العاصمة، وفي «ساحة التغيير» تعددت أنواع الخيام وألوانها وأحجامها أيضاً، وتفنن المعتصمون في تسمية خيامهم، إذ أن لكل خيمة اسمها الخاص، أكانت خاصة أم فئوية أم عامة. فهناك خيام تحمل أسماء بعض القبائل أو المناطق والمديريات اليمنية، وأخرى تحمل أسماء شخصيات وطنية، كخيمة «أبو الأحرار» الشهيد محمد محمود الزبيري، فيما تحمل بعضها أسماء شهداء سقطوا في ساحة التغيير، ونوع رابع يحمل أسماء لمنظمات مجتمع مدني، وأخرى لنقابات مهنية وفئوية، مثل خيمة المهندسين، وأساتذة الجامعة والبرلمانيين والصحافيين، كما تحمل بعض الخيام أسماء من وحي الاعتصام، كخيمة «ارحل»، وخيمة «العاطلون عن العمل»، و «الصمود»، وغير ذلك من الأسماء، أما من حيث الأثاث فيختلف من خيمة إلى أخرى، تبعاً لاحتياجات السكان ونوعياتهم، حيث تجد في بعضها المجالس العربية، وأخرى فيها مقاعد وكراسٍ متنوعة. وزير الأوقاف المستقيل من الحكومة وعضوية الحزب الحاكم احتجاجاً على أعمال العنف التي يتعرض لها المعتصمون، القاضي حمود الهتار والذي أعلن تأييده لثورة الشباب، قال ل «الحياة» أن تجسيد الوحدة الوطنية في ساحات وميادين التغيير والحرية، من أهم نتائج الثورة السلمية في اليمن، مشيداً بما يحدث في الساحات من «توحد وتعايش بين مختلف أطياف المحتجين الذين تركوا أسلحتهم جانباً وجاؤوا عزلاً إلى هذه الساحات التي اختفت فيها العصبية الحزبية والمذهبية والمناطقية»، وأوضح أن ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء وغيرها من الميادين والساحات، «قدمت نموذجاً فريداً وحضارياً للمجتمع المدني الذي ينشده الشباب». هذا التآلف والتآزر بين المعتصمين، شكلا نموذجاً للعلاقات الإنسانية الراقية، بخاصة مع بعض الفئات التي كانت على عداء واضح مع فئات أخرى، ولم يكن أحد يتخيل أن تجتمع الفئتان، في مكان واحد من دون حدوث مواجهة بينهما، الأمر الذي أثار حفيظة السلطات اليمنية والرئيس صالح، ودفعهم إلى اتهام هذا التآلف بالتآمر على البلاد، وكثيراً ما يقول الرئيس اليمني وأعضاء الحزب (الحاكم) أن هذه الفئات المتناقضة التي التقت في ساحة التغيير، (الحوثيون، الإخوان المسلمون، الناصريون، البعث، والاشتراكيون) للتآمر على البلاد، وتسعى بكل الوسائل لبث أسباب الفتنة والنزاع بين هذه الأطراف من جهة، وبينها وبين الشباب المستقلين في الساحة من جهة أخرى، غير أن كل تلك الجهود باءت بالفشل، يقول مصدر في لجنة التنظيم، ل «الحياة» يوجد في الساحة عدد كبير من الناس، «وتجمع كهذا من الطبيعي أن تحدث فيه خلافات، غير أن تلك الخلافات غالباً ما تكون حول الأساليب والرؤى وليس حول الأهداف والغايات، ويتم احتواؤها بالتفاهم والحوار». أما الأمر الذي أثار إعجاب ودهشة الباحثين والمراقبين، فيكمن في اقتناع هؤلاء الشباب، في ساحة التغيير بجامعة صنعاء وغيرها من ساحات التغيير والحرية في مختلف المحافظات اليمنية، بأن تكون ثورتهم هذه ثورة سلمية، ولذلك تخلى الجميع عن سلاحهم، الذي تركوه في منازلهم داخل العاصمة أو في القرى والأرياف، وأتوا إلى ساحات التغيير بلا سلاح، ولا حتى عصي وهراوات، ومنذ أكثر من شهرين وهم يواجهون رصاص القوات الأمنية، بصدور عارية، ومن دون أن تستفزهم تلك الاعتداءات، للانجرار إلى مواجهة العنف بالعنف، بل ويصرون على أن تبقى ثورتهم سلمية، مهما كان حجم ما يتعرضون له من قمع وأعمال عنف. ولتعزيز تواجد الشباب المعتصمين في «ساحة التغيير»، شكلت اللجنة المنظمة للاعتصام العديد من اللجان المتخصصة، مثل لجنة النظام، واللجنة الإعلامية واللجنة الطبية ولجنة الخدمات، واللجنة الأمنية، وبخصوص مهمات لجنة الأمن يقول مصدر فيها ل «الحياة» إنها تتولى بطاقمها الذي يزيد على 600 شخص مهام الحماية الأمنية لساحة الاعتصام، من خلال توزيع شبابها على كل مداخل الساحة في مختلف الاتجاهات، للقيام بمهام التفتيش للداخلين إلى الساحة، بهدف الحيلولة دون دخول أسلحة أو متفجرات إلى ساحة الاعتصام، إضافة إلى ضبط الأمن داخل الساحة والتعامل مع الأشخاص المندسين إلى الساحة، لتنفيذ عمليات ومهام أمنية، وأنشأت اللجنة أيضاً هيئة خاصة لرعاية أسر الشهداء، تقوم بتقديم المساعدات الغذائية والدعم المادي للأسر التي فقدت عائلها في هذه الاحتجاجات. كما أنشأت اللجنة المنظمة، مطبخاً يوفر الطعام للجان العاملة في الساحة والشباب الذين لا يملكون القدرة على توفير طعامهم، واستغلت المساحة المحيطة بالجامع القريب من مسرح الساحة لإنشاء عدد كبير من الحمامات، في حين تحولت ملحقات الجامع وبهوه الرئيسي إلى مستشفى ميداني لتقديم الخدمات الطبية للمعتصمين، واستقبال حالات الإصابات التي تصل إليه عند تعرض المعتصمين للاعتداء من قبل قوات الأمن، وهو ما حصل في الكثير من الأيام، ويقوم المستشفى الميداني بتحويل الحالات التي تفوق قدرته الاستيعابية للمستشفيات الخاصة والحكومية القريبة من الساحة. ويقول مصدر في إدارة المستشفى الميداني أن الأطباء اليمنيين يتوافدون بكثرة لتغطية احتياجات المستشفى، وبخاصة من قبل الجراحين في حال الاعتداء على المعتصمين وسقوط ضحايا، وأكد المصدر ذاته ل «الحياة» أن المستشفى يغطي احتياجاته من الأدوية والمستلزمات الطبية، من خلال التبرعات التي يقدمها رجال الأعمال والبيوت التجارية، والمنظمات الإنسانية العاملة في هذا المجال. المعتصمون وهم يقدمون نموذجاً للمجتمع الذي ينشدونه، تمكنوا من جعل «ساحة التغيير» أكثر حيوية ونشاطاً، ومع مرور الأيام تعددت مهام ووظائف هذه الساحة، ولم تعد ميداناً للاحتجاجات المطالبة برحيل الرئيس صالح فحسب، ولكنها بما أصبحت تمتلكه من مقومات تقنية، وما حظيت به من اهتمام، تحولت إلى ساحة للمنتديات السياسية والثقافية، ومسرحاً للفن التشكيلي والرسوم الكاريكاتورية، إلى جانب المسرح الفني للفنانين الذين وجدوا فيها جمهوراً لم يحظوا بمثله من قبل، وعلاوة على أنها أصبحت وجهة يومية يرتادها الشباب والمثقفون والناشطون السياسيون، وحتى الباحثون عن الترفيه، فهي أيضاً تحولت إلى متنزه يستقطب مختلف العائلات التي تسكن العاصمة صنعاء وتحمل أطفالها، لتذهب بهم إلى الساحة بغرض الترفيه. وفي ساحة التغيير التي لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً، تستقطب منصة الاعتصام الرئيسية اهتمام الشباب الذين يتجمهرون أمامها، طوال ثلاث فترات من العمل، صباحية ومسائية وليلية، وبعد افتتاح كل فترة بالنشيد الوطني، تبدأ المنصة عملها السياسي الثوري في الصباح والمساء، من خلال الخطب الحماسية وترديد الشعارات الثورية، وإعلان الاستقالات من الحزب الحاكم، والمنضمين الجدد إلى الساحة، وقراءة البيانات. وتتخلل كل ذلك قصائد شعرية وزوامل شعبية، تتمحور جميعها حول الثورة الشبابية السلمية والأسباب التي أشعلتها، وتأكيد الإصرار على استمرارها حتى يتحقق لها النجاح. ولا تكاد أمسية من أمسيات ساحة التغيير تخلو من حضور مطربين وفنانين، ممن أعلنوا انضمامهم إلى الشباب المعتصمين، ونصبوا خيامهم في الساحة، لينظموا فيها حفلات غنائية أشبه بحفلات الأعراس، وتتحول منصة الاعتصام الرئيسية إلى مسرح للمنشدين والفنانين الشعبيين، الذين يلهبون حماسة المعتصمين بالأناشيد الثورية التي تمجد الشباب وتهاجم النظام الحاكم، وبعض هذه الأناشيد توجه لقوات الجيش والأمن، لكسب ود منتسبي هذه المؤسسات وتأكيداً على أن هذه الثورة لا تستهدفهم. ويتزايد التوافد إلى الساحة خلال الفترتين المسائية والليلية، وخصوصاً من قبل العائلات التي تأتي خلال الفترة المسائية، لحضور الحفلات الغنائية والإنشادية والمسرحية. ولا تقتصر الفعاليات على المنصة الرئيسية وساحتها فحسب، بل تقام الكثير من الفعاليات في بعض المخيمات، وهناك مخيمات عامة، تتمتع بشعبية كبيرة وحضور جماهيري واسع، كتلك التي يتجمع فيها بعض المثقفين ورجال السياسة، وتقوم بعض المخيمات بتنظيم ندوات سياسية في شكل يومي، ولها جمهورها ممن يحرصون على حضور الندوات السياسية والمشاركة فيها، من نقاشات تتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية، وهناك مخيمات خاصة بالمرح، تستقطب نسبة كبيرة من الحضور، نظراً الى وجود بعض الممثلين الشعبيين، معظمهم من المغمورين، الذين يقومون بتبادل النكات السياسية، وإلقاء بعض الأغاني الهزلية ذات المدلول السياسي، وتقليد الأصوات، كما تقام في المخيمات الخاصة ببعض القبائل، أمسيات شعرية، تجتذب العديد من المعتصمين، وتشهد المخيمات الخاصة ببعض الفئات المهنية نقاشات خاصة بالهموم المهنية لكل فئة من الفئات. الأعمال الطوعية والخدماتية، لها نصيب وافر في ساحة التغيير، فهناك شباب متطوعون يهتمون بالبيئة والنظافة، ويقومون بجمع المخلفات من أرجاء الساحة ونقلها إلى المناطق التي تصلها سيارات جمع المخلفات، وآخرون اعتادوا حمل أدوات رش المزروعات بالمبيدات على كواهلهم، بعد تصفيتها وملئها بالمياه ومن ثم رش المعتصمين بها لتخفيف حرارة الشمس عليهم، وبخاصة في ساعات الظهيرة، كما تبنت إحدى النساء المعتصمات مشروعاً لمحو الأمية في أوساط المعتصمين. وتقول فريدة صالح الفقيه، أو «الخالة فريدة»، كما يسميها المعتصمون، أن الظلم والجهل والتخلف التي يعيشها اليمن دفعها إلى مغادرة منزلها، والذهاب مع أبنائها وبعض أفراد أسرتها للاعتصام في ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء. «الخالة فريدة» هي مدرّسة، ومدرّبة تربوية وتنتمي جغرافياً إلى محافظة إب (وسط البلاد)، جمعت العديد من الشباب المتطوعين لتعليم الناس غير المتعلمين، ووفرت لذلك الكتب الخاصة بالمبتدئين، كما عملت على توعية المعتصمين مع مجموعة من الشباب والفتيات في عدة مجالات، سواء على مستوى تنظيف الساحة، أو حتى التعامل مع الآخرين، إضافة إلى التوعية بأهمية الثورة، والأخلاقيات التي يجب أن تكون عليها. وهناك نموذج آخر للتعامل الحضاري الراقي بين الجنسين ذكوراً وإناثاً. وتقول أستاذة اللغة العربية بجامعة صنعاء والناشطة في ساحة التغيير الدكتورة ابتسام المتوكل ل «الحياة»: «فترة الاعتصام في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء، هي أفضل الفترات التي حظيت فيها النساء باحترام كبير وإحساس بالأخوة في تجمعات عامة تضم رجال القبائل ورجال الدين والشباب»، كما أشارت إلى أن «الطالبات اللاتي كن يتعرضن لمضايقات ومعاكسات عند ذهابهن إلى الجامعة للدراسة، يعاملن اليوم بكل احترام وتقدير وان تلك المضايقات اختفت تماماً»، وتعيد المتوكل هذا الأسلوب في التعامل، إلى الهدف النبيل الذي يجمع كل الناس في «ساحة التغيير». وتتفق أستاذة الهندسة بجامعة صنعاء والناشطة في الساحة الدكتورة نادية الكوكباني، مع المتوكل، وتقول إن «الساحة تحوي شرائح اجتماعية مختلفة من المعتصمين على المستوى الجغرافي وعلى المستوى الفكري، وكل هذه الشرائح توحدت من أجل هدف واحد هو إسقاط النظام، ويسعون لإنجاح ثورتهم حتى يحققون من خلالها أهدافهم في بناء وطن يحلمون به. الكثير من الباحثين والمراقبين لواقع الأزمة التي تشهدها اليمن، يرون أن مجتمع ساحات التغيير والحرية، بما فيه من تعايش ومدنية وتوحد، فاجأ السلطات اليمنية، وبالتالي تسعى السلطة إلى زعزعة هذا الكيان وزرع أسباب الفتنة في أوساط المعتصمين، لتفتيت وحدتهم حتى يسهل القضاء عليهم وإنهاء اعتصاماتهم، ويقولون إن فشل السلطة في اختراق هذا المجتمع، دفعها إلى استخدام ورقة «الاختلاط» في الساحات، على الأقل من أجل تعطيل الدور الكبير الذي تلعبه المرأة اليمنية في هذه الاحتجاجات والاعتصامات السلمية، وهو ما عبر عنه الرئيس ذاته في خطابه يوم الجمعة الماضي، عندما قال: «أدعوهم إلى منع الاختلاط، الذي لا يقره الشرع، في شارع الجامعة»، قبل أن يعود لمعالجة هذا الخطأ في لقاء مع عدد من مؤيداته، وتأكيده احترام المرأة ودورها. الرئيس وقيادات السلطة في اليمن كانوا يعتقدون أنهم بالحديث عن الاختلاط في ساحة التغيير، سيدفعون الأسر إلى إعادة بناتها إلى المنازل، وأن إجراء العودة إلى المنازل قد يطاول الكثير من الشباب، الذين سيؤثر كلام الرئيس صالح في أسرهم، لإبعاد أبنائهم عن شبهة الاختلاط، غير أن ذلك لم يحدث، وتعامل المعتصمون وقطاع واسع من المجتمع اليمني، مع كلام صالح على أنه إساءة غير مقبولة، وهو ما أشعل غضب المحتجين وفي مقدمهم النساء في مختلف المحافظات، ودفعهم للخروج في مسيرات جماهيرية حاشدة، والتقدم بطلب مكتوب للنائب العام لمقاضاة الرئيس. تقول المتوكل، «كلام الرئيس سبقه نوع من الحرب النفسية، وبث الإشاعات بهدف إضعاف هذا الاصطفاف والوجود الكبير والفاعل للمرأة والرجل على حد سواء، وكان ذلك يزعج بعض النساء، غير أن الأكثر إزعاجاً هو حديث رئيس الدولة عن الاختلاط، في خطاب للتداول الخارجي. أما الكوكباني، فتقول: «فجأة قرر صالح (رئيس الجمهورية) أن يكون (مفتي الجمهورية) ويحرم اختلاط المعتصمين في ساحة التغيير بصنعاء، وهو بذلك يفتي بما لا يعلم ويحرم ما هو غير قائم أصلاً، ويبدو انه حكم اليمن 33 عاماً من دون أن يعرف أن الجامعات مختلطة والمرافق الحكومية والمدارس والأسواق، وبالتالي فما قاله يلغي كلامه الدائم عن حرية المرأة وممارسة كل حقوقها في المجتمع وأهمها تعبيرها عن الرأي».