تزخر «ساحة التغيير» في صنعاء المصرة على مطالبها التي تتكون من أربعة أحرف فقط وهي «ارحل»، بالكثير من المفارقات التي وقفت عليها «عكاظ» إبان جولتها الاستطلاعية هناك. تحولت هذه في قلب صنعاء إلى بازار سياسي وشعبي وقبلي و«مقيل للقات»، وهي عادة شعبية يمنية، حيث يتجمع اليمنيون عقب الظهر لمضغ أوراقه. قصص وحكايات ساحة التغيير متعددة ولافتة، ولكن المشاهدة الأبرز التي رصدناها هناك، هي الاستعدادات والتأهب للزحف نحو القصر الرئاسي. وهو التحرك الذي يعتبر الأول من نوعه منذ بدء الاعتصامات، إذ أعلن شباب الثورة عن بدء العملية التصعيدية حين أطلقت دعوة للجميع بالمشاركة في مسيرات مليونية تنطلق في اتجاه عدة شوارع في العاصمة. وطالب شباب الثورة بضرورة التزود بالكمامات وجميع وسائل السلامة التي من شأنها حماية المتظاهرين من أي اعتداء. ورغم عدم الإعلان عن يوم الزحف رسميا، إلا أن مصادر في اللجنة الإعلامية أكدت لنا أنه تم تحديد يوم الجمعة المقبل موعدا للزحف نحو قصر الرئاسة. شباب الثورة في اليمن الذين صعدوا من ضغوطهم خلال الأيام الماضية تجاه النظام اليمني، دعوا إلى إضراب عام في مدن يمنية عدة، ويبدو أن الاستجابة كانت متفاوتة. اتجهنا إلى مخيم في «ساحة التغيير»، سألنا مجموعة من الشباب: هل أنتم مستعدون للزحف نحو قصر الرئاسة، أجابوا بنعم. وزادوا: «نحن لا ننتظر أي تعليمات من أي جهة، ومستعدون للزحف، لكننا نرغب أن يكون الزحف جماعيا.»، توجهنا بسؤال ثان عن سبب مجيئهم إلى الساحة؟ فأجابوا «جئنا لنطالب برحيل الرئيس اليمني الآن، ولن نغادر حتى الاستجابة لهذا الطلب.»، وعن رؤيتهم لمن المستقبل؟، قالوا «إن شباب اليمن سيصنع اليمن الجديد.». أما محمد الغابري الذي يلازم «ساحة التغيير» العاصمية منذ بداية الثورة، فأوضح: «لقد ابتكرنا سلاحا جديدا للتغيير، وهو سلاح الاعتصامات السلمية». ويصف الغابري هذه السلاح بأنه أقوى من دوي المدافع. وعند سؤاله عن المبادرة الخليجية، اكتفى بالقول لسنا معنيين بهذه المبادرة. أعضاء اللجان الأمنية الشعبية متواجدون في ساحة الاعتصام والبعض يقول إن هؤلاء مليشيات لحزب الإصلاح، والبعض الآخر يزعم أنهم تابعون للفرقة الأولى المنشقة، والتي يقودها اللواء علي محسن الأحمر. أفاد عضو اللجنة الإعلامية لائتلاف ثورة التغيير السلمي إبراهيم شاهر: أن المتواجدين في ساحة التغيير قدموا طواعية، وهم يشعرون بالأمان في هذه الساحة التي تحتضنهم، زاعما أن المعتصمين في ساحة التحرير هم من اتباع النظام اليمني ضمانا لنجاح اعتصاماتهم المدفوعة القيمة. لم نر خلال زيارتنا لساحة التغيير أي قيادات سياسية تابعة للقاء المشترك المعارض، وحاولنا الاتصال عدة مرات بالناشطة الشبابية توكل كرمان ولكنها لم ترد على هاتفها. وكان واضحا أن القات هو القاسم المشترك بين شباب ساحة التغيير والتحرير، حيث كان حاضرا وبقوة، إذ امتزجت رائحته مع الفعاليات والبرامج والأناشيد والأهازيج السياسية والمعارض الفوتغرافية لرؤساء سابقين لليمن ولضحايا الاعتداءات في ساحات التغيير. ثورة الشباب لم تزل لغزا يحير العديد من الباحثين عن الأسرار الخفية وراء إخراج الشعب اليمني من دواوين القات وجلسات المقيل إلى ساحات التغيير. محمد البيضاني اعتبر القات مظهرا سيئا في أوساط الخيام وعلى الرصيف وكذلك وجود سوق له في أوساطهم، بيد أن أحمد الخولاني يرى أنه من السهولة القضاء على هذه العادة التي يصفها بالسيئة وتضر بسمعة اليمن واقتصاده الوطني في حالة وجود حكومة توفر فرصاً للعاطلين وتقضي على البطالة التي أسهمت في نشر هذه العادة. ومع تزامن مضغ القات مع الأهازيج والأغاني، شاهدنا متظاهرين يتجمعون حول جامعة صنعاء ويرددون الأناشيد والأغاني، فيما كانت تسير أمواج من البشر بين الخيام، وأخرى تتفقد خيمة خصصت كمعرض للصور وأخرى للرسومات وثالثة للأعمال اليدوية. كما شاهدنا مخيمات عديدة للشباب يتجمعون فيها يسمعون وعظا دينيا، وإرشادات ثورية، وأخرى ثقافية، وكذلك سياسية. والزائر لليمن سيشاهد المجتمع اليمني بين ساحتين إحداهما مؤيدة للنظام وأخرى معارضة له، واختلف من يؤم الساحتين في كل شيء، واجتمعوا في مضغ القات. اختلفت وتنوعت القصص والحكايات في «ساحة التغيير»، فمحمد الذماري النائم في خيمة صغيرة مساحاتها متر في متر وهو منحن على جهازه المحمول (اللابتوب) قال: «أنا في غاية السعادة حينما أدخل هذه الخيمة الصغيرة، لأن جميع الأحلام فيها تخبرني بأني غدا سأكون سعيدا. وأخيرا حلمت أنني فزت في الانتخابات، وأصبحت رئيسا لليمن وبدأت أجتمع بقيادات شابة لأبدأ مرحلة جديدة من البناء». هكذا يحلم شباب الثورة وهم لا يدرون ما إذا كانت أحلامهم ستحقق أم هي أضغاث أحلام. عبدالكريم الشرقاوي حكى لنا قصة نادرة، حيث قال إن إحدى النسوة شعرت بالمخاض وهي في الساحة، وتم إيصالها إلى المستشفى الميداني فسألتها الطبيبة: أنت ستضعين مولودا ولا بد من نقلك إلى البيت، قالت أريد أن ألد هنا لأني أريد أن يخرج ولدي حرا محررا، فالإنسان تولد حريته قبل مولده. فيما يقول إبراهيم السعدي صاحب محل لبيع الورق والشعارات التي تناهض نظام الرئيس وتصوره بأشكال مختلفة إنه دخل إلى هذه الساحة، ويشعر بالحرية كونه لا يقدر على بيعها خارج الساحة ولا حتى حملها إلى خارجها، فهو في داخل الساحة يتمتع بكل حرية ويبيع ما يريد ويترك ما يريد حتى الأغاني الممنوعة خارج الساحة موجودة فيها وتباع وتردد بكل حرية. وتابع قائلا: «تفرج واضحك فالممنوع من قبل النظام في الشوارع البقية مسموح هنا». تنوعت القصص إلا أن قصة زواج أول عريس يمني في «ساحة التغيير» كانت محل إعجاب، فقد أصر شاب أن يكون عرسه في داخل خيمة في ساحة التغيير بدلا من أن يقيم خيمة خارجها. وقرر أن يكون الحفل وسط رفقاء درب العزوبية، وقد حظي الزواج بحضور لافت. هكذا بدت ساحة التغيير .. قات وهتافات ثورية ورقص وغناء. غادرنا الساحة ونحن نفكر في مستقبل اليمن الذي يشهد حركة احتجاجية منذ 3 فبراير الماضي تنادي بإسقاط نظام الرئيس صالح الذي يحكم البلاد منذ منتصف يوليو 1978، وأدت حتى الآن إلى مقتل نحو 200 محتج وجرح واعتقال الآلاف. هذا البلد الذي يحبنا ونحبه ونتمنى له الاستقرار والأمن.
شباب القبائل: فرصة للمصالحة وإنهاء الثارات الوجه الآخر لساحة التغيير في صنعاء، بدا لنا من خلال تواجد الآلاف من أبناء القبائل اليمنية الذين يرابطون في ساحات الاعتصامات المطالبة بالتغيير، وتنحي الرئيس اليمني فورا، ويبدو أن شباب القبائل المعتصمين في الساحات أثبتوا أنه لا تعارض بين القبيلة والمدينة، حيث انصهر شباب القبائل في الساحات مع شباب الثورة في نسيج واحد والتأكيد على مطلب الأحرف الأربعة وهي «ارحل». ويتوافد شباب القبائل الذين قدموا من أطراف العاصمة ومحافظات أخرى ونصبوا خيامهم في ساحات التغيير، واندمجوا في قالب واحد، وغيروا الانطباع السائد عن القبيلة في نزوعها نحو العنف، واعتمادها لغة السلاح، إذ نسوا ثاراتهم القديمة والدفينة. وعكس شباب القبائل طقوسهم القبلية التي تمتزج ما بين الأهازيج ورقصات البرع، الزوامل والقصيد، الغناء والشعر الشعبي. والملاحظ في ساحة التغيير في صنعاء أن غالبية المعتصمين من شباب الجامعات والمدارس. وتشكل ساحة التغيير أنموذجا لمجتمع يمني مصغر بمختلف شرائحه وطبقاته، حيث ذابت جميع الفوارق وسلوكيات التمييز الطبقي والطائفي، كثير من هؤلاء جمعتهم الساحة بعد أن فرقتهم الصراعات البينية والثارات والحروب. يقول محمد ناجي ويمثل قبيلة حاشد، إنه التقى أشخاصا لم تتح له فرصة اللقاء بهم منذ سنوات. وزاد أنها فرصة للمصالحة وإنهاء الخلافات بين القبائل. وعند سؤاله عن ما إذا كانت هذه الثورة شبابية شعبية أم حزبية، رد أنها سلمية.. سلمية. وفي أحد المخيمات التابعة لشباب القبائل وجدنا لوحة كتبت علىها عبارة «أبناء سنحان يطالبون بإسقاط النظام» وأخرى كتب عليها: «معتصمون حتى سقوط النظام». أما إبرهيم الشايف من قبيلة بكيل والمعروفة بدعمها للرئيس اليمني أفاد «نحن مع الثورة سئمنا من الحكم ونريد أن نبني اليمن الجديد بعيدا عن الصراعات القبلية». وزاد «ليس هناك حاشد ولا بكيل نحن نريد يمنا ثوريا جديدا مبنيا على سواعد الشباب». تساءلنا بعد مغادرة مخيم الشباب هل فقد معسكر الرئاسة أحد أهم أوراقه، وهي ورقة القبلية أم مازالت لديه أوراق أخرى لم يعلن عنها بعد؟.