قبل أن يرمي المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما بمقولة «نهاية التاريخ» بكثير، هزّ دانيال بيل (1919- 2011)، عالِم الإجتماع الأميركي المرموق، أوساط الأنتلجنسيا بكتاب «نهاية الإيديولوجيا» (1960) The End of Ideology. واعتبر الكتاب مستهلاً لنمط التفكير الذي أرساه بيل بدأب، عبر مجموعة من الكتب مثل «بزوغ مجتمعات ما بعد الصناعة» (1973) و «التناقضات الثقافية للرأسمالية» (1976). والحق أن كثيراً من مقولات هذا الأكاديمي، راجت على ألسنة المثقفين في بلاده وخارجها، وغالباً من دون أن تُنسب صراحة إلى صاحبها الذي رحل في 25 كانون الثاني (يناير) 2011. ولعلها مصادفة ضخمة أن يرحل عالِم الإجتماع الذي صاغ مصطلحات ثورة المعلوماتية (قبل إندلاعها بعقود)، مثل «مجتمع المعلومات» و «إقتصاد المعرفة»، و «مرحلة ما بعد الصناعة» و «مجتمع المعرفة»، بالتزامن مع «ثورة 25 يناير» التي حقّقت كثيراً من مقولاته حول الأزمنة المعاصرة ومعطياتها. ولوقت طويل، شغل بيل منصب أستاذ كرسي علم الإجتماع في جامعة هارفرد الأميركية. وعُرِف عنه دراساته المطوّلة عن «ما بعد الصناعة»، بل أعتُبِر مرجعاً عنها. وعند وفاته في سن ال91، رثته هذه الجامعة باعتباره «أبرز مفكري الولاياتالمتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية». والحق أنه لم يصل إلى النضج في تفكيره بسهولة، ولا في مرحلة مبكّرة من عمره. فقد ابتدأ حياته يسارياً متحمّساً على طريقة شيوعيي أميركا في ثلاثينات القرن العشرين. وفي تلك المرحلة، تعرف إلى إيرفنغ كريستول، الذي سيغدو أحد أهم منظّري المحافظين الجُدّد إبان ولايتي الرئيس السابق جورج دبليو بوش. ثم تأثّر بأفكار جون ديوي، وهو مفكر يساري معتدل. وبعدها، انتقل تدريجياً الى اليمين. وفي 1948، ترك عمله في إحدى مجلات اليسار، ليعمل في هيئة تحرير مجلة «فورتشن» الوثيقة الصلّة بعالم المال ورجال الأعمال. وفي خمسينات القرن العشرين، إنضم الى الهيئة الأكاديمية لجامعة شيكاغو، متأثّراً بأفكار الفيلسوف ماكس فيبر، خصوصاً بالنسبة لعلاقة المجتمعات مع العلوم والتكنولوجيا. ورافق التحوّل الثقافي الذي كثّفته رئاسة رونالد ريغان، إذ مال إلى صفوف المحافظين الجُدد (ومعظمهم جاء من اليسار أيضاً) في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته. ثم تأرجح تفكيره في إتجاه اليسار مرّة اخرى، ليستقر عند تفكير وسطي ونقدي، بداية من تسعينات القرن الماضي. وفي كتابه «نهاية الإيديولوجيا»، رأى أن التيارات الفكرية الإيديولوجية تجد سندها في تناقضات الرأسمالية والمجتمع الصناعي، مستنتجاً أن الإيديولوجيا تنتهي في مجتمعات ما بعد الصناعة، فيظهر تفكير نقدي مستند إلى التفاعل بين الثقافة والمجتمع. وعام 1995 اختارت مجلة «تايم» الأميركية «نهاية الإيديولوجيا» ضمن المئة كتاب الأكثر تأثيراً، منذ الحرب العالمية الثانية. وفي كتابيه «بزوغ مجتمعات ما بعد الصناعة» و «التناقضات الثقافية للرأسمالية»، نظّر بيل للتناقضات الأساسية التي رأى أنها ستسود مجتمعات ما بعد الصناعة. وشدّد على التناقض القوي بين البنية التكنوقراطية للمجتمعات الحديثة من جهة، وثقافتها المرتكزة الى المتعة واللذة، التي تتضمّن الكثير من التوقّعات المتضخمّة عن أنماط العيش الفردية والجماعية.