30 عاماً مضت، والحال كما هو عليه، «حي» لم يتغير فيه شيء، المكان هو المكان نفسه، والسحنات ذاتها، فوضى وزحام، وأزقة ضيقة، وروائح كريهة تنبعث من دون هوادة، حتى العيون لم تتبدل، تراها تتلقاك بنظرات المغشي عليه، وكأنها فعلاً تعلم أنك تدلف إلى أخطر حي عشوائي داخل العاصمة المقدسة «النكاسة» أو ما يعرف واشتهر ب «قوز النكاسة». ولم تكد «الحياة» تتوغل داخل دهاليز الحي، خلال جولة جالتها أخيراً، حتى فاجأتها أرتال الباعة المفترشين لواجهة الحي الأمامية الذين تجاوز عددهم العشرات، يجلسون على قارعة الطريق، يلتف حولهم مجموعة من البشر، يدفعون لهم مقابل الحصول على لفافة صغيرة بدا أنها من الورق الأخضر محشوة بألوان مختلفة، وتمضغ بطريقة «كلاسيكية». وما إن تقدمت «الحياة» لأحد الباعة، وطلبت منه معرفة ما يبيعه، تردد بدايةً، وحاولت من ثم معرفة اسمه، لكنه رفض، ومع إيهامه باستخراج بعض المال، قال بلكنة يصعب فهمها، إنه «دخان أخضر» يتم لفه بورق الشجر «الأخضر»، ويحشى بألوان مختلفة، ويتم بيعه على سكان هذا الحي الذين يفضلونه ويعتبرونه أمراً مهماً لا يمكن التنازل عنه أبداً. حاولت «الحياة» التمركز على ناصية الحي، لكن العيون كانت تراقبها بحذر، فحولت اتجاهها نحو سوق الخضراوات المتخذة من داخل الحي مكاناً لها، وهناك وجدت أصناف الخضراوات والفواكه التي تباع على عهدة أحد الباعة بأسعار أقل من أسعار المنطقة المركزية أو حلقة الخضراوات الرئيسة بفرق كبير. وفي المكان الأخير (سوق الخضراوات) وبعد محاولات عدة بدأت «الحياة» تستنطق أحد باعة الخضراوات المتجولين بشير عبدالسميع، عن أسعار الخضراوات وهل هي فعلاً أقل من تلك التي تباع في الأسواق المركزية فأجاب بنعم، وقال: «نبيع الخضراوات والفواكه بأسعار زهيدة، ولك أن تتخيل مثلاً أن سعر كيلو الطماطم لا يتجاوز ريالين، بينما في المراكز التجارية الأخرى لا يقل سعره عن الخمسة ريالات»، مؤكداً أن خفض الأسعار يأتي رغبةً منا في جلب الزبائن إلى داخل السوق. وأشار إلى أن زبائنه من مختلف الجنسيات، لكن غالبيتهم من السعوديين «خصوصاً ساكني الأحياء القريبة من حينا، كأحياء المسفلة والطندباوي، والخالدية ونحوها»، مشيراً إلى أن حركة البيع والشراء تبدأ بعد الظهر مباشرةً، وتستمر حتى ساعة متأخرة من الليل. وعن وجود بعض المضايقات من رجال البلدية لهم ولبضائعهم كونهم يعملون من دون تراخيص رسمية، شدد عبدالسميع على أن هناك جولات ميدانية كثيرة من أصحاب البلديات، «لكننا دائماً ما نضع أحداً ما على ناصية الحي يراقب لنا المكان، ويخبرنا حال دخول أي سيارة رقابية حتى نستطيع الهرب بعرباتنا المحملة بالمعروضات». ويعج شارع طويل يخترق قلب الحي بدكاكين صغيرة تباع فيها مستلزمات الحياة العامة، فتجد هناك المطاعم الصغيرة التي تبيع المأكولات «البرماوية»، والأماكن التي تبيع اللحم والأسماك، وعندما تسير قليلاً تجد أيضاً محال الملابس الجاهزة، بأنواعها كافة رجالية أو نسائية، كما أنه توجد دكاكين أخرى صغيرة يعمل بها خياطون مختلفون لخياطة الثياب وتقييفها، خلافاً عن مواقع مماثلة يفترشها البعض لإصلاح الأحذية. وعلى بعد خطوات من هذا الشارع يتمركز عدد من العمالة في الجهة المقابلة له، منهم الدهان، والسباك، والكهربائي، والبناء، جميعهم يتوافدون من الصباح في انتظار طلابهم من السعوديين الذين يفضلونهم على غيرهم من العمالة الأجنبية، نظراً إلى المبالغ الضئيلة التي يتقاضونها مقابل ما ينجزونه من أعمال. وهو ينتظر مصيره المجهول في طلب الكسب، اقتربت «الحياة» من أحد العمالة البرماوية يدعى نور عبدالله (يعمل في مهنة السباكة)، وبجانبه شنطة ملئت بأنواع الأدوات التي بدا أنها تختص بعمله الذي يؤديه، قال: «إنه يعمل في هذه المهنة منذ ثلاث سنوات، إذ تعلمها من معلمه الذي يكبره سناً، من دون أن ينخرط في أي دورة مهنية أو تدريبية، وإنما من طريق الممارسة والعمل المكثف الذي كوّن لديه خبرة في هذا المجال»، مفيداً أنه أصبح متقناً جيداً لهذه «المهنة». وأشار إلى أنه لا يحمل ترخيصاً أو تصريحاً يخول له ممارسة المهنة، لكنه يعتمد على معارفه، ومن يعمل عندهم في المنازل والمراكز التجارية في إيجاد عمل جديد، مبيناً أن بعض الأيام تمضي من دون أن يجد عملاً نهائياً. في المقابل، أكدت أمانة العاصمة المقدسة أن حي «النكاسة» من الأحياء العشوائية وسيتم تطويره قريباً، مشيرةً إلى أنه وخمسة أحياء أخرى ستتم إزالتها بالكامل لتكون النواة الأولى لتطوير المناطق العشوائية في مكةالمكرمة. وأوضح أمين أمانة العاصمة المقدسة الدكتور أسامة بن فضل البار أن حي النكاسة هو وأحياء جبل الشراشف، والزهور، والكدوة، وحي الخالدية (خلف قصر الزمردة)، ستكون النواة الأولى لمشاريع الأحياء العشوائية في مكةالمكرمة، واعداً بأن التطوير في حي النكاسة سيبدأ من شارع الفرقان انتهاء بالطريق الدائري الثالث. ولفت إلى أن لائحة مشاريع التطوير ألزمت كل شركة مطورة بتنفيذ أحياء بديلة لإسكان سكان المناطق والأحياء التي تعمل على تطويرها وذلك قبل البدء في تنفيذ المشروع.