تدوينةٌ بكلماتٍ منتقاة حزينة أعلن بها الشاعر المصري محمد أبو زيد الخبر، وعنوانه «قبل أن تغلق شرقيات أبوابها». استهل أبو زيد تدوينته بقوله: «أحزنني خبر أن مسيرة دار شرقيات بلغت نهايتها بعد أكثر من ربع قرن في عالم النشر»، وهو الخبر الذي استقاه من خلال مهاتفة صاحب الدار حسني سليمان. الشاعر، الذي أصدر خمسة دواوين ورواية لدى «شرقيات»، كتب: «كنتُ أُهاتف سليمان، مصادفة، عندما فاجأني بأنه يُنهي إجراءات غلق الدار، وعندما رآني مصدوماً، قال لي إن لكل شيء نهاية، وإن القطار وصل إلى محطته الأخيرة، وإنه كبر في السن وتعب». التدوينة مرّت على الإضاءات التي أودعتها الدار لدى المكتبات المصرية والعربية، ووفق حديث الشاعر محمد أبو زيد ل «الحياة»، فإنه لم يكتب تلك التدوينة؛ «إلا لرغبتي في أن يعرف جميع محبي شرقيات أن الدار التي ساهمت - ولو بجزء ضئيل - في تشكيل وعيهم ستغلق، وأن هذه الكتابة ربما تجعلهم يتحركون ليشكلوا ما يمكن اعتباره جبهة ضغط على حسني سليمان ليتراجع عن قراره». في المقابل، وبحديث «الحياة» مع حسني سليمان حول قراره الانسحاب، أجاب باقتضاب بأنه يشعر بأنه لم يعد لديه ما يمكن تقديمه إلى صناعة النشر. وبسؤاله عما إذا كان للقرار علاقة بالصعوبات التي تواجه النشر بعام في مصر، أجاب سليمان أن «هذا جانب آخر من قرار له أسباب متداخلة»، مؤكداً رغبته في الانسحاب، «بهدوء». ولكن الدار التي انطلقت مع بدايات تسعينات القرن الماضي، لا يمكن أن يمر خبر انسحابها بهدوء، لا سيما وهي واحدة من أشهر دور النشر العربية، وقدمت، وفق تدوينة أبو زيد، الأعمال الأولى لعدد كبير من الأدباء والشعراء المهمين بداية من إيمان مرسال ومصطفى ذكري، كما قدمت أعمالاً لأجيال أخرى من المبدعين مثل جمال الغيطاني وخيري شلبي وإدوار الخراط ومحمد عفيفي مطر ولطيفة الزيات، وقدمت ترجمات متميزة من روائع الأدب العالمي مثل «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست، و «الأحمر والأسود» لستاندال، ومؤلفات بورخيس، ورباعية مارسيل بانيول و «صورة شخصية في السبعين» لسارتر، و «مدار بوفاري» لفلوبير، ومؤلفات وليم بليك وآني إرنو وكونديرا وكافكا وإيتالو كالفينو وسودرجران، فضلاً عن مئات الكتاب المصريين والعرب من أجيال مختلفة مثل ميسون صقر وجورج طرابيشي وعلي منصور وعلاء خالد ورنا التونسي وطارق إمام. الشاعر شعبان يوسف، رأى في تصريح ل «الحياة»، أن «شرقيات» متوقفة «تقريباً»، منذ سنوات عدة عن نشر أعمال جديدة، وذلك بعد أن لعبت دوراً مهماً في حركة النشر، وقدمت لجيل التسعينات روايات «الخباء» لميرال الطحاوي، و «دنيا زاد» و «هليوبلس» لمي التلمساني، و «قميص وردي فارغ» لنورا أمين، و «السرائر» لمنتصر القفاش، و «متاهة قوطية» لمصطفى ذكري، ونشرت كذلك روايات «اللجنة» لصنع الله إبراهيم، و «يقين العطش» لإدوار الخراط، وكتباً نقدية مترجمة ومؤلفة، وأنشأت ما يشبه ورشة تعمل على النصوص قبل نشرها، فسبقت بذلك الكثير من دور النشر المصرية الراسخة. وأضاف يوسف: «لعبت إصدارات «شرقيات» دوراً مهماً في تطور صناعة الكتاب، منذ أن وضع الفنان الراحل محيي الدين اللباد خبرته وجهوده لدعم الدار... هذه الأمور جعلتها الدار الأولى في مصر، ومن ثم جذبت عدداً كبيراً من المبدعين الراسخين». ولاحظ يوسف أن «الكتاب كان يصدر بمشاركة مالية مِن الكاتب، لكن ذلك انحسر في السنوات الأخيرة، لأسباب عدة، فاضطر حسني إلى الانسحاب تدريجاً من السوق، وهو أمرٌ يزيدنا احتراماً له». حديث شعبان يوسف الذي غلب عليه التتبع المحايد لمسيرة «شرقيات» وقرارها الذي يراه منطقياً وفق السياق العام للنشر في مصر، تواكبه حالة من الحزن جعلت صاحب ديوان «قومٌ جلوسٌ حولَهم ماء»، الشاعر محمد أبو زيد، يقول إن ثمة تحركات يمكن اتخاذها من أجل إعادة «شرقيات» إلى المشهد، ومنها أن «يذهب مثقفون إلى حسني لإقناعه بالعدول عن قراره بالنظر إلى أهيمة أن تواصل تلك الدار عملها المهم وأن يشعر بأهمية ما يقدمه. ربما على المكتبات المختلفة أن تتفق معه على توزيع إصدارات «شرقيات» لمساعدتها في التغلب على مشكلاتها المادية. مشروع «مكتبة الأسرة» كان يساعد بعض دور النشر بشراء حقوق نشر بعض كتبها، وربما يفعل هذا مع «شرقيات». ربما تدخل دار أخرى في شراكة معه. ربما تساعده إحدى الهيئات في إعادة طبع الكنوز الأدبية التي أصدرها، وتوزيعها عربياً». ويضيف أبو زيد: «لشرقيات، أفضال ثقافية كبيرة عليّ وعلى جيلي وعلى أجيال سابقة ولاحقة. أصدرتُ فيها ستة كتب، ولم أفكر في التعامل مع دار أخرى، لأنني لمست فيها الاهتمام والتعاون والثقة والصدق في المواعيد. قيمة «شرقيات»، فضلاً عن أنها علامة تجارية مميزة مصرياً وعربياً- أنها أصبحت جزءاً من ذاكرة الثقافة المصرية، ولا يمكن أن نذكر أهم الكتب التي صدرت خلال الربع قرن الماضي من دون أن نُعرج على هذه الدار». وإذا كانت الحالة الخاصة ل «شرقيات» قد طفت على السطح الآن، فإنها وفق أبو زيد قابلة للتكرار، «أعتقد أن أمر الانسحاب حدث من قبل، مع دور نشر جرَّبت التخصص في النشر الأدبي وفشلت بسبب الخسائر. أتوقع أن تواجه دور نشر أخرى المصير ذاته، ما دام أن الثقافة باتت في ذيل اهتمامات العرب عموماً».