نجحت مصر أخيراً في تحجيم الجماعات الراديكالية في شمال سيناء بعد إحكام قبضتها الأمنية على الحدود مع قطاع غزة. لكن ذلك أدى إلى اتجاه تلك الجماعات إلى استهداف مشاريع تنموية ومصارف، في المنطقة نفسها، بعدما بات متعذراً عليها ضرب المكامن الأمنية والمقرات العسكرية. وكان منحنى المواجهة تصاعد عقب عزل الرئيس السابق محمد مرسي في الثالث من تموز (يوليو) 2013، ثم زادت وتيرة الهجمات الإرهابية بعد إحكام عناصر الجيش السيطرة على المنطقة الصحراوية الجنوبية المتاخمة لمدن شمال سيناء. وبينما ظل تكتيك الجماعات الراديكالية في سيناء يرتكز إلى مهاجمة المكامن الأمنية، اتجهت عناصرها أخيراً إلى استهداف المؤسسات المدنية وقطاعات التنمية التي تمثل مدخلاً حيوياً لتعمير سيناء. ففي الشهر الماضي استهدف تنظيم «داعش» فرعاً لمصرف حكومي في العريش، وفي 10 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري قام مسلحون تابعون للتنظيم نفسه بتدمير خمس شاحنات تجمل أطناناً من الإسمنت في وسط سيناء، وقتل سائقيها. ويرتبط ذلك التطور بفقدان تنظيم «داعش» جانباً معتبراً من نفوذه بعد تحرير الموصل والرقة، وفرار عناصره وتصفية قطاع واسع من مسلحيه. وتزامن انهيار الهياكل العسكرية والإدارية ل «داعش» الأم، مع تضييق الخناق على الجماعات الراديكالية في سيناء والتي تعد بحكم طبيعتها الطبوغرافية أحد ملاذات التنظيمات الإرهابية. ولاستهداف المؤسسات المدنية والمشاريع التنموية في سيناء دلالات عدة؛ منها أن مشاريع التنمية والهياكل المدنية، وبخاصة المصارف التجارية، باتت أحد أهم أولويات «داعش»، لتأكيد حضوره، ورفع الروح المعنوية لمقاتليه بعد خسائره في المواجهات مع الجيش. ففي نيسان (أبريل) الماضي، وبعد أكثر من ثلاث سنوات من المواجهات، بسط الجيش هيمنته على جبل الحلال وسط سيناء الذي كان مركزاً للمسلحين، فضلاً عن سيطرة القوات الأمنية على المناطق الجنوبية لمدينتي رفح والشيخ زويد، التي ظلت ملاذاً للمتطرفين. ولذلك أراد «داعش» عبر استهداف المشاريع التنموية والمصارف الممولة لمثل هذه المشاريع إيصال رسالة بأنه لا يزال قادراً على شن هجمات كُبرى في شمال سيناء. وهناك دلالة توقيت الهجوم، إذ تزامن مع توجه الحكومة المصرية إلى تنشيط مشاريع التنمية في سيناء، فعلى سبيل المثال رصد مجلس الوزراء 17 بليون جنيه لمشروعات التنمية، فضلاً عن اتفاقيات تمويل مع عواصم إقليمية أبرزها الرياض التي اعتمدت سلسلة من المشروعات التنموية في سيناء، منها جامعة الملك سلمان، ناهيك عن تدشين طرق وتجمعات سكنية وصناعية وتجارية. ويلاحظ أن تصاعد استهداف المشاريع التنموية يأتي مع تحولات في المشهد السياسي والعسكري على مستوى الإقليم، فسياسياً نجحت القاهرة في تحقيق اختراق جذري في العلاقة بين فتح وحماس، وقادت تفاهمات بين الجانبين، ما يعني إحكام السيطرة على الحدود مع غزة. وإذا كان اتفاق المصالحة بين «فتح» و «حماس»، لا يمكن فصله عن المسار الجديد للحركة، واندماجها في النظام السياسي الفلسطيني، فهو يعني من ناحية أخرى فك الارتباط بين «حماس» والجماعات الإرهابية، للحفاظ على صفة الشرعية مع دول الإقليم، وهو الأمر الذي ينعكس سلباً على نفوذ الجماعات الراديكالية في سيناء، وبالذات «داعش». على صعيد ذي شأن، فإن تطورات المشهد الليبي وانحسار أبناء العنف يلقى بظلال سلبية على «داعش» في سيناء، خصوصاً أن جماعات الإرهاب في ليبيا تعتبر من منافذ تمويل التنظيمات المسلحة فى سيناء، وكشف اعتقال السلطات المصرية في أيلول (سبتمبر) 2014، 11 إرهابياً، كانوا يحملون ثلاث رسائل من شخص يعرف باسم أبو أحمد الليبي، وتتضمن تشجيع الأخير الجماعات الإرهابية في سيناء للتوحد تحت راية واحدة، في مقابل تقديم أوجه التمويل المالي والعسكري كافة. وهجوم «داعش» على مشاريع التنمية والمصارف، يكشف عن تراجع مصادر دعمه مالياً ولوجيستياً، مع إحكام القبضة الأمنية في سيناء فلم يعد قادراً على التهريب والاتجار في الأسلحة، ناهيك عن ممارسة دور رئيسي في تسهيل مرور اللاجئين الأفارقة إلى إسرائيل وفرض إتاوات عليهم. ولا ننسى رغبة التنظيم في الانتقام من تصفية غالبية قادته، وفي مقدمهم سالم سلمي الحمادين الشهير ب «أبو أنس الأنصاري»، الذي ينتمي إلى قبيلة «السواركة»، ويعد أحد مؤسسي تنظيم «بيت المقدس» الإرهابي. وأدت خسارة التنظيم عناصره البشرية الأعلى على مستوى التخطيط والفكر إلى تراجع العمليات المسلحة في سيناء، وخسارة جزء معتبر من نفوذه وسط بعض أبناء القبائل الداعمة له. وكان بارزاً، هنا، تأسيس ما يعرف ب «اتحاد قبائل سيناء»؛ في أيار (مايو) الماضي لمواجهة الجماعات التكفيرية، ومطاردة عناصرها. لذا اتجه التنظيم في عملياته الأخيرة إلى تكتيك «الخلايا المترابطة»، والعمليات النوعية الخاطفة والمركزة في مناطق جغرافية بعينها، منها الهجوم الأخير على شاحنات الإسمنت والبنك، تجنباً للمواجهات المباشرة مع عناصر الجيش. استهداف الجماعات الراديكالية في سيناء المشاريع التنموية والمصارف يبدو كاشفاً عن تراجع لا تخطئه عين في قدرات التنظيمات الراديكالية في سيناء عسكرياً ومالياً، وأن فرص حضورها تتراجع في ظل تنامي قبضة القوات الأمنية، وتنامي التنسيق بين القاهرة وحماس. لكن إذا كانت المشاريع التنموية في سيناء التي بدأت لتوها مدخلاً مهماً لتجفيف حضور الجماعات الراديكالية، فهي ما زالت عند حدها الأدنى، فسيناء بوابة مصر الشرقية التي عانت عقوداً من التهميش الاقتصادي، في حاجة ماسة إلى تفعيل محافظ الاستثمار على أرضها لتلبية احتاجات السكان فضلاً عن ضرورة تسوية القضايا المجتمعية للأهالي الذين تضرروا من التهجير والعمليات العسكرية التي تستهدف الراديكاليين. * كاتب مصري..