على رغم التعبئة العسكرية والإعلامية والنفسية التي وفرتها الدولة المصرية لتبرير عملياتها العسكرية في سيناء من جهة، ومحاصرة حركة «حماس» من جهة ثانية باعتبارها امتداداً أيديولوجياً لجماعة «الإخوان المسلمين» التي تصنفها نخب الحكم «إرهابية»، تبدو النتائج صادمة. فبالإضافة إلى الفشل في إعادة هيكلة المشهد الأمني وقضم جذور الجماعات الراديكالية، ساهم صانع القرار ومتخذه في تأزم العلاقة مع «حماس» على رغم قوتها على الأرض وعلاقاتها الخارجية، وحضورها في الترتيبات الإقليمية التي تجرى على قدم وساق في المنطقة. وإزاء هذه التوجهات السياسية التي تبدو بحاجة إلى تراجع ومراجعة، فإن تشكيل قيادة عسكرية موحدة في منطقة القناة لم يؤت ثماره، وأصبح الوضع في سيناء أكثر تعقيداً، وكشف عن ذلك حادث مكمن الصفا في جنوبالعريش الذي راح ضحيته 18 قتيلاً منهم أربعة ضباط. وأثارت الهجمات الأخيرة قلق السلطة في مصر، خصوصاً أنه ليس الهجوم الأول من نوعه الذي تُستخدم فيه أسلحة غير تقليدية، فقد سبق استهداف مواقع ونقاط تفتيش وحواجز عسكرية في تموز (يوليو) 2015 في منطقة الشيخ زويد في شمال سيناء، في هجمات أدت إلى مقتل وإصابة نحو 70 من عناصر الجيش في أعنف هجوم من نوعه. وأعلنت حسابات تابعة لتنظيم «داعش» على موقع «تويتر» مسؤوليتها، فقد ذكر التنظيم في بيان له أن عنصراً يُدعى «أبو قعقاع المصري» اقتحم المكمن بسيارة مفخخة وأسلحة آلية متعددة الأعيرة، ما أسفر عن مقتل عشرة بينهم ضباط، استولى المهاجمون على أسلحتهم. وزاد أن العملية جاءت رداً على «تفتيش نساء المسلمين وإهانتهن على الحواجز»، كما توعد بأن «القادم أدهى وأمرّ». وقد شهدت سيناء طوال السنوات التي خلت عدداً معتبراً من أعمال العنف استهدفت بالأساس المنشآت السياحية قبل أن تحول جهودها منذ نحو عام إلى مكامن ومواقع الجيش، في إطار سعيها لإقامة إمارة إسلامية. واستغلت التيارات الجهادية حال الفوضى والإرباك التي أعقبت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وتراجع القبضة الأمنية للدولة على شبه جزيرة سيناء، ما مكّن التنظيمات الإرهابية من استغلال الفرصة والعودة إلى العمل والانتشار في المنطقة بعد سنوات من المواجهة، إبان فترة حكم حسني مبارك. لذا تعيش سيناء اليوم على صفيح ساخن بوجود آلاف الإرهابيين الذين يستخدمون أسلحة متطورة من بينها صواريخ مضادة للطائرات ومدافع هاون ورشاشات ثقيلة، فضلاً عن التدريب والتخطيط القتالي الذي كشف عورات القدرات التسليحية والتدريبية للقوات النظامية في مواجهة الإرهابيين، وأيضاً الفجوة اللوجستية بين القيادة المركزية وأطرافها. والواقع أن استهداف مكمن الصفا لم يكن جديداً أو الأول، فالأرجح أن ثمة مؤشرات تلمح إلى استمرار تسخين المشهد في سيناء التي تعيش منذ صيف 2011 حالة إنذار قصوى بعد سلسلة اعتداءات دامية على مواقع عسكرية. غير أن التطورات الأخيرة تبدو مختلفة عن سابقتها، إذ تنطوي على مؤشرات عدة، أولها كثافة انتشار الجماعات الجهادية في سيناء، فبالإضافة إلى جماعة «أنصار الجهاد» التي تدين بولائها للقاعدة تضم خريطة العنف جماعة «جيش الإسلام» التي تأسست في العام 2006 وأدرجتها الولاياتالمتحدة منظمة إرهابية في العام 2011. كما توجد جماعة التكفير والهجرة المعروفة إعلامياً ب «جماعة الرايات السوداء»، وهي معروفة بقوة تنظيمها وامتلاكها أسلحة متطورة، وتنشط في منطقة الشيخ زويد. وهناك جماعات أخرى في مقدمها «جند الإسلام»، و»أجناد مصر»، و»أنصار بيت المقدس»، وأخيراً «داعش» التي أعلنت بعض الفصائل الجهادية في سيناء انخراطها فيها ومبايعتها لها. والمؤشر الثاني يلمح إلى تطور تكتيكي ومعلوماتي للجماعات الراديكالية في سيناء، وكذلك تدريب احترافي وتنسيق مع كيانات غير محلية كشفت عنها مشاركة جنسيات أجنبية في الهجوم، إلى جانب مشاركة أعداد كبيرة من عناصر السلفية الداعمة ل «داعش» و»بيت المقدس». خلف ما سبق، كشفت حوادث الاعتداء على المكامن حدود نجاحات الخيار الأمني في استئصال جماعات العنف في سيناء، وكان بارزاً، هنا، ضعف المردود الإيجابي للقيادة الموحدة التي تشكلت في كانون الثاني (يناير) 2015 وتتمتع بالصلاحيات الممنوحة لقائد عسكري من قوات بحرية وجوية ومشاة واستخبارات حربية وغيرها من أفرع الجيش، وتعمل باستقلال مطلق من دون الحصول على إذن من رئاسة الأركان إلا في حالات الضرورة القصوى. غياب التنسيق في سياق متصل، كشف حادث «الصفا» أن غياب التنسيق مع «حماس» يمثل خللاً سياسياً بالغاً، فقطاع «غزة» المأزوم يمثل عمقاً استراتيجياً لمصر. وربما مثَّلت زيارة وفد «حماس» للقاهرة في 12 آذار (مارس) الجاري خطوة لتصحيح المسار مع القطاع، بعدما فشلت المناطق العازلة على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة. والأرجح أن مواجهة العنف المتنامي في سيناء، تتطلب إضافة إلى شروط أخرى مدَّ جسور الود مع «حماس» التي نفت ضلوعها في عملية اغتيال النائب العام السابق هشام بركات، فضلاً عن أن الأيام الماضية شهدت رسائل إيجابية بعثت بها قيادة حركة «حماس» إلى القاهرة، منها رسالة محمود الزهار الذي قال في حوار متلفز له عشية زيارة وفد الحركة لمصر: «حماس إخوان، لكن لا رابط تنظيمياً مع تنظيم الإخوان، والحركة لا تتدخل في الشأن الداخلي المصري». كما أكدت الحركة على لسان مسؤوليها الرغبة في تقليل حجم التوتر بين الجانبين خلال المرحلة المقبلة، وانتظار نتائج إيجابية على القضايا المشتركة بينهما، كمعبر رفح والمصالحة الفلسطينية ومشروع التهدئة مع الكيان الصهيوني والتنسيق في الملف الأمني الحدودي لوقف حركة الإرهابيين على الحدود. المهم أن المعضلة الأمنية في سيناء تتطلب إعادة ترتيب العلاقة مع «حماس» بعيداً من تبنى سياسات ظرفية ولحظية، وإعادة النظر في بنية الاتفاقات الأمنية التي أقرتها اتفاقية كامب ديفيد قبل نحو 37 عاماً، فبموجب الترتيبات الأمنية المقررة، تبدو يد مصر مكبلة، ولا تتيح لها بسط سيادتها على سيناء كاملة. في المقابل، فإن القفز على العنف وتداعياته في شبه جزيرة سيناء يتطلب تسوية القضايا المجتمعية للسكان الذين تضرروا من عمليات التهجير والعمليات العسكرية، ناهيك بأن المشاكل التي يعانيها سكان سيناء قائمة كما هي منذ إنهاء احتلالها وعودتها إلى مصر كاملة عام 1982. فثمة شعور لدى شرائح واسعة من أهالي سيناء بأنهم لا يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة ولا يجوز لهم تملك الأراضي سواء التي يزرعونها أو تلك التي يقيمون عليها. القصد أن سيناء التي تمثل نحو 6.25 في المئة من مساحة مصر تقريباً، وتعتبر بوابتها الشرقية، ما زالت تفتقد تشخيصاً دقيقاً لاضطراباتها، كما من غياب التنمية، وما أقيم من مشاريع تنموية باء بالفشل، ومنها على سبيل المثال مشروع تعمير صحراء سيناء وزرعها بالقرى الدفاعية في العام 1955، وشق ترعة السلام لتحويل جزء من مياه النيل لإحداث تنمية زراعية. على صعيد متّصل، فإن عمليات التنمية السياحية التي شهدها جنوبسيناء جاءت بالأساس على حساب السكان، إذ تم تخصيص أجود الأراضي والمواقع السياحية لرجال الأعمال والقريبين من السلطة، وهو ما أفشل عمليات التنمية. لذلك تبقى مواجهة العنف في سيناء مرهونة بتنسيق مع «حماس» يراعي اعتبارات الأمن القومي المصري ويخفف وطأة الأزمة الاجتماعية والمعيشية في قطاع غزة، وكذلك تطوير عمليات التنمية ووضعها على طريق التنفيذ بعيداً من الوعود، وآخرها ما قيل عن تخصيص نحو 10 بلايين جنيه في شباط (فبراير) الماضي للتنمية ومكافحة الإرهاب في سيناء. * كاتب مصري