تحقّقت اخيراً أمنية الفنان اللبناني الكبير شفيق عبود (1926-2004) في أن يكون معرضه الاستعادي الأول في باريس، المدينة التي احتضنته منذ عام 1947 وعرفت قيمته باكراً، المكان الذي سمح له بتحقيق نفسه وبلورة فنه. المعرض الذي حضر حفل افتتاحه حديثاً في معهد العالم العربي جمهورٌ غفير هو من تنظيم تاجر الفن اللبناني (مقيم في باريس) كلود لومان الذي ركّز فيه على عمل عبود الرسومي فاختار منه 190 لوحة بأحجام مختلفة، تمّت استعارتها من مجموعاتٍ خاصة وعامة بهدف تشكيل مسار الفنان بجميع مراحله، أي من 1948 وحتى 2003. ولا يسع المتأمل في هذه الأعمال عدم ملاحظة تماسكها المدهش على المستويين التشكيلي والدلالي، على رغم تطوّر عبود الثابت حتى وفاته واستخلاصه بنفسه مراحل مختلفة في فنه. فكما لو أنه كان مدركاً منذ البداية، وإن بطريقةٍ حدسية، أن اللمسة الأولى أو اللون الأول الذي سيُسقطه على ورقة أو قماشة سيورّطه كفنان ويُشكل قاعدة أو محور تساؤلاته واختباراته اللاحقة. من هنا أصالته، وبالتالي سهولة التعرّف الى أعماله التي تحمل، خلف معالمها المتطورة ومواضيعها المختلفة، هويةً عميقة واحدة، حدثاً أولياً مكوّناً وموجّهاً. وفعلاً، خلف كل فنان أصيل أسطورةٌ شخصية تفسر بحثه الثابت ووجهة سيره، اسطورةٌ تتشكّل غالباً في الطفولة من مجموعة أحداث مؤثّرة أو انفعالات قوية وتمنحه في شكلٍ غير شعوري المادة أو العناصر الأولى أو القاعدة لتشييد صرحه. وفي هذا السياق بالتأكيد، تحدّث عبود مراراً عن جدته الحكواتية وعن الحكواتيين الجوّالين وقصصهم، مانحاً بذلك إيانا مصدر توقه داخل فنه في أن يكون بدوره راوي قصص. ففي حوار مع الناقد الفرنسي بيار شابوي عام 1979، قال: «ما أفعله حالياً يرتبط في شكلٍ ما بما كنتُ أفعله عامَي 1947 و1948. أجد نفسي أعود تدريجياً إلى ما كنتُ أحققه بعفويٍة وبلا خبرة. لعلنا نستردّ أكثر فأكثر طفولتنا على مر الزمن. نستعيد تعبيراً أكثر عفوية، أكثر مباشرَة، ونطمس خبرةً أكيدة. في الماضي، كان هذا التعبير حاضراً بلا وعي. اليوم أنا أدرك رغبتي في أن أكون حكواتياً بلغة فن الرسم». ولفهم نوع الحكايات التي يرغب عبود في سردها علينا بالخطوط والألوان المجرّدة، ما علينا سوى مراجعة دفاتره التي تعجّ بالتأملات والملاحظات التقنية. فداخلها نقرأ: «الشيء الأصعب هو إقناع الآخرين بأن فن الرسم هو ليس تأمّلاً بشيءٍ ما بل أمرٌ معيشٌ وفعلٌ». وفي مكانٍ آخر نقرأ أيضاً: «في تكوين أي لوحة، ثمة إدراك حدسي بصري نابع من حدثٍ معيش. لماذا أختار هذه اللحظة أو تلك من الحياة اليومية؟ إنه لغزٌ يتعذر عليّ فكّه أو تفسيره. أن أرسم يعني إجمالاً أن أروي قصة. لكن لغتي هي فن الرسم وكل شيء يتحدّد داخل اللوحة وفي فعل الرسم». أكثر من اللوحة المنجَزة إذاً، افتُتن عبود بفكرة الرسم وممارسته فكتب: «الفنان مغرمٌ إلى حد الجنون بما يبحث عنه (وبالتالي، يجهله). تمدّني فكرة الرسم بمتعةٍ لا نهاية لها. أقصد محترفي برغبةٍ كبيرة. أدخل وأنظر ببهجة العاشق ومخاوفه». وإلى الناقد شابوي، صرّح: «أعشق اللوحات غير المنجزة لشعورنا أمامها بأنها تستدعينا وتنتظر شيئاً منا». أنا أحذر من لوحةٍ لا تُطلِق أي دعوة ولا تنتظر شيء. علاقاتي بلوحاتي تشبه علاقاتي بالبشر. هنالك اللوحات التي تنفتح لنا وتلك التي تنغلق في وجهنا». أما متى يفرغ عبود من العمل على لوحته، «فعند ترميم الصدمة الأولية وعودة الحياة إلى مجراها، بعد بحثٍ متردِّد»، أو «حين تملك اللوحة جلدها الحقيقي» (قول يعكس مرةً أخرى أنسنة عبود للوحاته)، أو «حين يتصادف اللون والضوء»، وهو قول يجسّد مسعى الفنان الثابت في عمله ونظرته إلى هذا المسعى كقدرٍ لا مفر منه، نظراً إلى انبهار عينيه بالألوان والضوء منذ صغره. ويقودنا ذلك من جديد إلى طفولة عبود في بلده حيث تأثر بمناظر الطبيعة اللبنانية وألوانها ونورها القوي، كما تأثّر بالأيقونات البيزنطية العربية التي تأمّلها في كنيسة بلدته، المحيدثة. طبعاً جميع النقاط التي أشرنا إليها مهمة لتفسير عمل الفنان ومحرّكات فنه. لكن هل أن ما أنجزه عبود كان ممكناً لولا انتقاله منذ عام 1947 إلى باريس التي كانت لا تزال عاصمة الفن في العالم من دون منازع، وإقامته فيها حتى وفاته؟ طبعاً كلا. فتردّده فور وصوله على أكاديمية الفنون الجميلة ومحترفات أندريه لوت وجان ميسانجي وفرنان ليجي هو الذي أكسبه قواعد عمله الفني ووجّهه نحو «فنِّ حقيقي محرَّر من النماذج التربوية والتنظيرات الجمالية والثوابت الأكاديمية، فنٌّ يسعى فقط إلى العفوية وإلى التعبير عن واقعٍ كلي في حالة تناغمٍ مع العالم». وقدومه إلى باريس في فترة انحسار الصورة لصالح اللاشكل، وانتصار التجريدية الغنائية على مختلف أنواع التصوير، هو الذي دفعه إلى صقل أسلوبه التجريدي الخاص الذي تخلى فيه بسرعة عن التصوير مع استبقائه على موضوعه أو مصدر إلهامه. وفعلاً، سعى عبود، منذ مرحلة «التشكيلات» (1952-1963)، إلى توليف داخل رؤيةٍ واحدة «آخرية الداخل والخارج» لبلوغ واقعٍ أصلي يتعذر الإمساك به، وحده «جلد فن الرسم»، كما كان يسميه، قادرٌ على التعبير عنه. ومن هذا المنطلق، استخدم في جميع لوحاته ألواناً وهّاجة تفرض إيقاعاً ينبثق من التلاعُب المستمر للضوء على الأشكال الجاسمة، مما يلغي أي جمود على سطح اللوحة، كما عمد، من حين إلى آخر، إلى اسقاط خطوطٍ مستقيمة أو ملتوية تحدّد فضاءاتٍ خاصة تجتاحها لمسات ريشةٍ زاهية أو غسقية يُحدث بعضها نتوءات خشنة أو ناعمة هي كناية عن علامات استذكارية داخل رسمٍ يرتكز على الاستعارة التشكيلية والحسّية. وفي قوانين تناغماته، يوحي توهّج الألوان في لوحات عبود بالأريج أو الموسيقى. فاللون يسيل للانصهار بالضوء، والريشة تنقل جميع الانطباعات داخل أصداء ذات جانب سمفوني تم توظيف قوتها السردية. أما العلامات الملموسة في كل لوحة فتردّنا إلى أحداثٍ مُعيشة وتُشكّل كمّاً من التفاصيل داخل رؤيتنا الشاملة للقصة المسرودة. على مفترق ثقافتين، غذّى عبود لوحته من روائع الشرق الأسطوري والشعبي ومن حداثة الغرب التشكيلية قبل أن يرتقي بها مع الوقت إلى حدود «التجلّي» (وفقاً لتحديد كلود لومان). وهذا ما يمنح تجربته كل أهميتها وفرادتها، غرباً شرقاً.