يُقام في "معهد العالم العربي" في باريس في الثاني والعشرين من شهر مارس الجاري حتى التاسع عشر من شهر يونيو معرض استعادي شامل للفنان التشكيلي الراحل شفيق عبّود الذي يُعَدّ أحد روّاد الفنّ اللبناني ومن الذين أسسوا للفنّ العربي الحديث. وهي المرّة الأولى التي يقام فيها معرض بهذه الأهمية للفنان، وذلك بفضل الجهود التي بذلها كلود لومان، صاحب "غاليري كلود لومون" في باريس حيث كان عبّود يعرض أعماله. يضمّ المعرض نماذج مختارة من نتاج عبّود وهي تغطّي المراحل الأساسية التي قطعها منذ بداياته عند نهاية الاربعينات وحتى وفاته عام 2003. ولقد صدر مؤخّراً عن "غاليري كلود لومان"، بالاشتراك مع منشورات "كْلِيا" الفرنسية، كتاباً فخماً يحتوي على صور بالألوان تمثّل بعض أعمال الفنان، وتلقي الضوء على أبرز المحطّات التي مرّت بها تجربته الفنية. يحتوي الكتاب أيضاً نصوصاً لكلّ من شفيق عبود، كريستين عبود، ليديا هارامبور، صوفي كريبس، كلود لومان وكاتب هذه السطور الذي جاءت كلمته بعنوان: "سارق الضوء"، ونثبتها، هنا، في صيغتها العربية. *** تتعدّد المسالك وتتنوّع الاتجاهات في رحلة شفيق عبّود، تلك الرحلة التي استغرقت حياةً بأكملها. كان يتأمل في الكائنات والأشياء ويدرك في أعماق نفسه أن ما يراه يتعذّر قوله، فما يراه يفوق الوصف. كان يركن إلى الصمت ومن صمته نستدلّ على عزلته المتوهّجة داخل محترفه. غالباً ما كنّا نلتقي، طوال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، في ذلك المحترف الكائن في الطابق الأرضي من المبنى الذي عاش فيه قرب حديقة "مونسوري". وكانت لنا حوارات كثيرة حول فنّه وحول الفنّ بصورة عامة. كان يجلس على كرسي مرتفع ويبدأ في لفّ سيجارته. يدخّن قليلاً وهو يريني آخر أعماله. يتركني ساهياً أمام خطوطها وتدرجات ألوانها ويقترب من ركن يضع فيه، عادةً، ركوة القهوة التي حملها معه من لبنان. يصبّ محتواها في فنجانين صغيرين تعبق منهما تلك الرائحة المعتَّقة المحمَّلة بالذكريات. كان محترفه مغلقاً كمغارة. نوافذه الوحيدة كانت اللوحات الموزّعة على الجدران. النافذة الأكثر نوراً هي اللوحة التي تكون قيد الإنجاز. ودائماً كان ثمة لوحة قيد الإنجاز يأتي إليها في الصباح كأنه على موعد معها. كان ينسج حياته الفعلية داخلها فيما هو يرسم. وكلّما عمل عليها وغاص فيها، ازدادت اتساعاً وأصبحت مقاساتها بلا حدود. كانت اللوحة هي الوجه الحقيقي للفنان، يختبئ وراءها ويتماهى معها. كانت وطناً بين وطنين، لبنان الذي ولد ونشأ فيه، وفرنسا التي جاءها طالباً عام 1947. وطالما أقرّ أمامي بأنه كان يرغب في أن يوزع حياته بين هذين البلدين، وهذا ما فعله حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 حين شعر بصعوبة الرهان على بلد أنهكته الطوائف والحروب. غير أنّ هذا الواقع الشخصي (وكان يعبّر عنه بمرارة أحياناً) لم يؤثّر في مسيرته الفنية التي بدأت هناك، ونضجت واكتملت هنا. وكان دائماً يردّد: "أحبّ بيروت كما أحبّ باريس، ففي المدينتَين مسّ من الجنون، وفيهما حالة من الاستنفار الدائم، وثمة ما يظلّ يبدأ ولا ينتهي". شفيق عبود أحد الرواد الذين بدأت معهم المغامرة الفعلية للفن اللبناني الحديث. منذ مجيئه إلى باريس، انفتح على التجارب الفنية الجديدة وكانت العاصمة الفرنسية آنذاك مركزاً أساسياً لها، مثلما كانت مسرحاً لتحوّلات أدبية وفلسفية وفكرية. ولقد عاش اختبارات تلك المرحلة وأسئلتها، ورافقت تجربته ما عُرف، بين الخمسينات والستينات في باريس، بالتيار التجريدي الغنائي كما تبلور داخل "مدرسة باريس"، كما أحسّ بلقاء عميق مع بيار بونار. يختصر عبّود علاقته بأعمال هذا الأخير بقوله: "عندما أرى عملاً من أعماله أظنّ أنه من نتاجي الشخصي". كيف لا والاثنان، بونار وعبّود، ينهلان من نور المتوسّط. يجمع بينهما أيضاً إعجابهما بالمدرسة الانطباعية وبأحد أبرز روّادها كلود مونيه. ويعتبر عبّود أنّ "الفنانين الانطباعيين هم وراء الثورة الفنية الحقيقية. ولئن جاءت بعد الانطباعية تيارات أخرى مهمّة، فإنّ التطور القوي يعود للانطباعيين". ترى، هل عاش عبّود صراعاً مع مفاهيم الحداثة يوم وصوله إلى العاصمة الفرنسية؟ يقول: "لم يكن صراعي مع الحداثة آنذاك كما كان يمكن أن يكون بين 1924 و1925. التحولات المهمة حدثت مطلع القرن العشرين. أنا جئت إلى باريس بعد الحرب، أي في مرحلة التساؤلات. كلنا أخطأنا وكلّنا كنّا على صواب. وما أطلق عليه التجريدية الغنائية التي كان يجسّدها كل من نيكولا دوستايل وبولياكوف، هو فن لا يمكن الدفاع عنه إذ لا أساس له. وهذا يعني أنك لا تستطيع أن تقدم البراهين التي تؤكد صحة توجه هذا الفن. فالتجريد الغنائي صفة تجمع بين التجريد الصافي والحسّ الطبيعي. ومن تابع مسيرته التجريدية حتى نهايتها وجد نفسه أمام احتمالين: إمّا التوقف عن الرسم أو الالتفات إلى الهندسة كما كانت الحال مع ماليفيتش وماندريان". في مرحلة الخمسينات والستينات تبلور التجربد الغنائي في باريس حيث أقام عبّود معرضيه الأوّلين عامَي 1955 و1959. "يومها لم أكن أعرف ماذا أفعل"، يقول. ويتابع متحدّثاً كعادته بصيغة الجمع وذلك لتواضع منه: "في تلك المرحلة، أقبلنا على العمل بحماسة وشغف، لكننا كنّا نعيش في مناخ صعب طغى في باريس وتحكّم في مسار الفن عموماً. صرنا إذا رسمنا ما يشبه المنظر الطبيعي عمدنا بسرعة إلى محوه. لقد غرقنا آنذاك في إرهاب التجريد. أما الآن فلقد ضعف التجريد. تعب واستنفد. وأنا لم أعد أشعر بلزوم البقاء في دائرته. بعد عشرين أو ثلاثين سنة من العمل، اكتشفت أنني حرّ وأستطيع أن أرسم ما أريد من دون أن تكون لوحتي تجريدية بالضرورة". كان عبّود يروي لنفسه حكايات فيما كان يرسم. وكانت حكاياته مضمرة تتداخل فيها الطبيعة والحبّ، الأعشاب والأزهار، الأسرّة والستائر. يعرفها بتفاصيلها الدقيقة لكنه لا يترك لنا إلاّ ما يشي بها من بعيد. يقول: "طوال حياتي كنتُ أرغب في رواية حكايات داخل العمل الفنّي. أحبّ اللوحة التي تحمل في مكان منها، حكاية". لكن الحكاية غالباً ما كانت تمحو نفسها وراء تقنيات العمل والموادّ التي يتألّف منها فلا يبقى إلاّ التناغم العميق بين كافّة العناصر والمكوّنات. بين نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، كان يردّد أمامنا باستمرار: "التجريد، بالمعنى الحقيقي، لم يعد قائماً اليوم. كلمة تجريد ضاع تحديدها وأفرغت من محتواها. توقّف الاهتمام بالتجريد الفعلي حين بدأ الكلام على تجريد غنائي. صفة التجريد الحقيقية أنه لا يغنّي. عندما ألحقوا به الغناء بدأت نهايته. صار الاهتمام بالتجريد مرتبكاً ومشوّشاً. لم يعد كما كان مع فنانين من أمثال كاندنسكي وماندريان. تجريد هذين الفنانين لا يسمى تجريداً غنائياً. التيار الغنائي بداية العودة إلى التصويرية". مرّة، كنّا نجلس في داره، وكنتُ أنظر، من حين إلى آخر، إلى لوحاته المعلّقة على الجدران كأنني أنظر إلى مدى بعيد. فجأة، التفت إليّ وأشار إلى لوحة كان رسمها عام 1959 وقال: "انظر إلى هذه اللوحة. نورها نور الأشياء التي من حولك. ولذلك فهي لم تعد مجرّد تجريد. إنّ المرجع الأساسي لصياغة اللوحة، هنا، هو التصوير الكلاسيكي. وهي، من أجل بنائها وتماسكها، تتضمن قانوناً وإيقاعاً وأساساً هندسياً. الفن في الستينات كان يريد التقاط الحقائق المرئية. بعد عشر سنوات من العمل المتواصل، اكتشفنا أن ليس في مقدورنا الذهاب أبعد مما ذهبنا، وأننا ندور حول أنفسنا. كان يلازمني الإحساس بضرورة الدخول في تجربة أخرى". تحضر الطبيعة بقوّة في أعمال عبود وعندما كنّا نسأله عن علاقته بها، يسألنا هو بدوره: "أيّ طبيعة؟ طبيعة بوسان أم طبيعة جيورجوني؟ طبيعة فناني ما قبل النهضة أم طبيعة الانطباعيين؟ وهل هناك فنان غير متأثر بالطبيعة؟ من لا يتأثر بالطبيعة يصبح مهندساً معمارياً ينخرط في عمله ويقول إنّ الفن لن يؤدي إلى شيء ومن الأفضل أن نبني بيوتاً ونستر العالم. من جهة الضوء تأتي أعمال شفيق عبّود، من صيف لا ينتهي تستحيل معه تلك الأعمال شرفةً مطلّة على عرس أزلي من الألوان. كأنه يرسم في اللحظة التي تلي خروج الكون من الظلمة، هذا التوهّج يَسِم تجربة الفنان ويجعلها تنطوي على غبطة داخليّة تقرّبها من شطح المتصوّفة. يقول عبّود: "أؤمن بشيء ولا أعرف مدى قيمته، عندما أقارن بين لوحة لي ولوحة لأحد الذين قطعوا معي المشوار الفني نفسه، أجد أنّ في لوحتي نوراً خاصاً. أعتقد أن هذا النور له علاقة بأول نور رأيته في قريتي المحيدثة. هناك لوحة رسمتها عام 1942 ومازالت تستوقفني حتى اليوم. وهي تنقل جانباً من القرية حيث يظهر دير وجبال تنحدر في اتجاه محدّد، الإيقاع الذي تحمله تلك اللوحة يوجد في كلّ شيء وينعكس في لوحاتي كلها. ذاك المشهد الطبيعي يعاود بزوغه دائماً وإن بأشكال وتصورات مختلفة. الضوء الذي أتكلم عليه موجود في جبل لبنان وفي طفولتي، ومن خلاله أرى وأرسم مهما كنت بعيداً عنه". لا يأتي عبّود من الجاهز والمنجَز، بل من المسعى الدائم واللانهائي، حتى أنّ تجربته بأكملها تقوم داخل ذاك المسعى بالذات، وهذا ما يمنحها متانتها وخصوصيتها. كان عبود يدرك أن "ليس المهم ماذا نرى، بل كيف نرى". تتعدّد الزوايا لرؤية الشيء الواحد. بالعين يرى وبالجسد، بالحدس وبالمقاييس الموضوعية. وغالباً ما كان يستعين بآلة التصوير الفوتوغرافي ليقارن بين ما تراه العين وما تراه الآلة، وليضبط حركة رؤيته ويطلقها في فضاءات حرّة ورحبة، ولا يقع أسير ما سبق أن رآه، هو الذي كان يؤمن بأنّ على الفنان أن يتخلص من ذاكرة عينيه". على الرغم مما وصل إليه الفن في الوقت الراهن، وأمام "الانتصارات" المتتابعة لأنصار اللافنّ، ظلّ عبود يؤمن، حتى اللحظة الأخيرة من حياته، أن الفنّ لا يزال ممكناً. وكان لا يفتأ يردّد: "هناك من يقول إنّ وسائل الفنّ تغيّرت مع العصر، وإنّ بإمكان الفنان أن يرسم بموادّ أخرى غير التي اعتاد عليها". يقولون أيضاً: "مضى على استعمال الزيت ستة قرون تقريباً وهذا يكفي". كان عبود يوافق على هذا الكلام، لكنه لم يكن يوافق على بعض المحاولات العدميّة المتطرّفة التي تأخذ الفنّ إلى طريق مسدود. "وحده الفنان يفجّر المستقبل، ولذا فهو وحده يعرف الخوف. الهواة يلعبون، يتسلّون، يركضون وراء الواجهات. وحده الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل"، هذا ما قاله لنا شفيق عبود وكان مدركاً للتحديات التي تواجه "الفنان الحقيقي" في زمن بلغ فيه تسليع الفنّ ذروته وأصبحت البورصة الفنية إحدى علامات الزمن الحديث ومن أوجه أزمته. تلك الأزمة كان عبود يواجهها على المستوى الشخصي ويعبّر عنها بقوله إنها "بدأت مع سيزان ومع الفنانين الروس، ثم جاء، في وقت لاحق، مع دوشان الذي كان نتيجة للأزمة لا سبباً لها". ويضيف: "الواقع الفني في العالم يتحرّك بين تجربتين أساسيتين: تجربة دوشان وتجربة بران فان فلد. دوشان يتحدث عن فنّ اللافن، وفان فلد ينطلق من نزعة عدمية تهديمية. دوشان وفان فلد وضعا الفن في مأزق". أما كيف كان يتحرك عبود ضمن هذا المأزق فيقول إنه لا يفكّر عندما يرسم. "التفكير في المسائل المطروحة يعوق عملي ويجعلني أضيع في متاهات الأسئلة. إذا نظرنا من حولنا نشعر بأنّ الطريق مسدود ولا أمل في الأفق المنظور. لكن هكذا كانت الحال دائماً في كلّ العصور". ويتساءل: "من كان يتخيل وجود ليوناردو قبل ليوناردو وسيزان قبل سيزان؟" وفجأة يستدرك عبّود أنه غاص في الكلام وفي التنظير، فيحرّك يده اليمنى ويقرّبها من وجهه وهو يقول: "لا يستطيع الكلام أن يواكب التجربة الفنية، والحكاية التي ترويها لا تأتي دائماً مطابقة للحكاية التي تعيشها. لذلك أقول: لنترك الكلمة، الآن، للعمل الفنّي نفسه". بالقرب من حديقة "مونسوري" المفتوحة على الخارج التي تخضع لحركة الفصول المتعاقبة، عاماً بعد عام، ثمة حديقة أخرى كانت تنمو داخل محترف شفيق عبود، وكانت تزهر كقوس قزح بألف لون في كلّ عمل من أعماله التي تلفحها شموس لا تنطفئ.