كاتبة شابة، حيوية، سمراء بملامح مغربية وأناقة فرنسية. ليلى سليماني، مزيج بين ثقافتين متباعدتين، تعمل على التقريب بينهما بالكتابة أولاً وعبر منصبها السياسي- الديبلوماسي الجديد، ثانياً. بعد فوزها العام الماضي بجائزة غونكور عن روايتها «أغنية هادئة»، صارت ابنة السادسة والثلاثين هي العربية الثالثة التي تفوز بهذه الجائزة الأدبية العريقة بعد الطاهر بن جلون وأمين معلوف. وقبل أيام، اختارها الرئيس إيمانويل ماكرون لتكون ممثلته الشخصية في الأنشطة الفرنكوفونية، وكان تعيينها في باريس انجازاً إضافياً في مسيرة نجاح واثقة في انطلاقتها صوب العالمية. عن هذا المنصب ومهماته وعن كتابها الجديد «جنس وأكاذيب» الذي يحوي شهادات نساء مغربيات، إضافة إلى هويتها المزدوجة وموقفها من الواقع العربي وعلاقتها بأدبه وأمور أخرى، تحدثت ليلى سليماني التي التقيناها خلال مشاركتها في صالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت. تأتي مشاركتك في معرض بيروت الفرنكوفوني بعد يوم من تعيينك ممثلة لفرنسوا ماكرون شخصية للفرنكوفونية. كيف تشرحين لنا عن هذا المنصب؟ - هذا يعني أنني سفيرة اللغة الفرنسية في مكانٍ ما. من مهماتي تعزيز هذه اللغة والدفاع عنها، والعمل على تكريس قيم الفرنكوفونية التي لا تنحصر في كونها تقدّم حصانة للغة الفرنسية، بل التأكيد أنّها رؤية إلى العالم وأسلوب حياة يقوم على أسس المشاركة والانفتاح. ويعتبر دور الفرنكوفونية اليوم بالغ الأهمية أمام أيديولوجيات الانعزال والخوف من الآخر والتطرف العقائدي المتشدد. ثمّة من يرفض اللغة الفرنسية مؤثراً الانكفاء على ذاته والاكتفاء بلغته وثقافته وكتابه. وفي مقابل هؤلاء، لا بدّ أن نعمل، من خلال هذا المنصب، على نشر ثقافة الإنفتاح اللغوي والثقافي من أجل حياة انسانية مشتركة لا تخلو من التحاور المثمر. نحن اليوم في بيروت ونتحاور بالفرنسية، إنها إذاً لغة جامعة وقادرة على مدّ جسور التواصل بين الناس أينما كانوا. لذا، أرى أنّ من واجبنا حماية لغة فرنسية حاضرة في قارات العالم الخمس وتجمع بين أشخاص من دول مختلفة جغرافياً وسياسياً ودينياً، خصوصاً في ظل العولمة التي نعيشها اليوم في شكلها الحالي. يُمثّل الكاتب عادةً صوت المهمشين والضعفاء، لكنّ منصبك الراهن يجعلك تمثلين رئيس جمهورية، أي رأس السلطة. ألا تعتقدين أن ثمة تناقضاً بين عملك ككاتبة وعملك كممثلة شخصية للرئيس في سياق الفرنكوفونية؟ - أنا أمثّل فكرة... هي فكرة الفرنكوفونية التي تخدم هؤلاء الناس قبل أي أحد آخر. مبادئ الفرنكوفونية تنصف الناس المنسيين وغير المرئيين في مجتمعاتنا، لأنّها تساعدهم على الاندماج مع مجتمعهم وظروفهم. وأعتقد أن اكتساب اللغة الفرنسية، إضافة إلى اللغة الأم، يساعد جداً في تعزيز قوة الإنسان فيغدو قادراً على إسماع الآخرين صوته والدفاع عن نفسه أمام العالم ومعرفة ما يجري من حوله. الفرنكوفونية تكرّس كرامة الإنسان وتحفظ حقوقه في العدالة والأخوة والمشاركة. في المغرب مثلا، وفي دول أفريقية أخرى، ثمة رغبة مدهشة عند الأطفال في تعلّم لغات أجنبية كثيرة، لكنهم لا يجدون دائماً الوسائل متاحة أمامهم، لذا فإنهم يكتفون بما تقدمه لهم البرامج والمحطات التلفزيونية. نحن علينا كرعاة للفرنكوفونية الاهتمام بهؤلاء عبر إيجاد أفق ثقافي أوسع وعالم أكبر من عالمهم الضيق والمغلق. قرأنا في بعض الصحف أن الرئيس ماكرون سبق أن عرض عليك منصب وزيرة الثقافة في حكومته لكنك رفضت. هل هذا صحيح؟ - لا تعليق. هذا الأمر صار من الماضي. اليوم عندنا في فرنسا وزيرة ثقافة ممتازة. لكنّ بعضهم أكّد أن رفضك منصب الوزيرة سببه اهتمامك بالكتابة وتفرغّك لها ولطفليك الصغيرين؟ - أولاً، الأم قادرة على أن تكون رئيسة دولة من دون أي مشكلة. لا شيء يقف أمامها إن أرادت أن تحقق مشروعها. المرأة قادرة على العمل والكتابة وتربية الأبناء... أمّا أنني متفرغة للكتابة فهذا صحيح لأنها مركز حياتي. هل تخافين أن يشغلك المنصب السياسي- الديبلوماسي الجديد عن الكتابة؟ - الرئيس الفرنسي اختارني لهذا المنصب انطلاقاً من كوني كاتبة. فما أقوم به في مؤلفاتي ينصبّ أيضاً في إطار تعزيز اللغة الفرنسية وحمايتها. أضيف إلى ذلك أنّ عملي الجديد لا يتطلب مني التقيد بمكتب أو دوام عمل، إنما يحافظ على هامش الحرية الذي أحتاجه في حياتي ككاتبة. التصق الأدب المغاربي الفرنكوفوني بتيمات معينة كالاستعمار والهجرة والهوية المزدوجة والبحث عن الذات. لكنّ روايتك الأولى «في حديقة الوحش» جاءت لتحكي عن امرأة تُدمن الجنس، بينما تناولت روايتك الثانية «أغنية هادئة» أزمة المربيات في منازل الأمهات العاملات. يبدو أنك لست مهتمة بسؤال الهوية علماً أنّك مولودة في الرباط لأب مغربي وأم جزائرية فرنسية. ألا تعيشين هذه الأزمة؟ - لا أبداً، ولا يهمني أن أكتب عن هذا الموضوع لأنني لا أعيشه ببساطة. قضية الهوية قديمة وأشعر بأنّ وقتها مضى. ثمة قضايا أكثر حداثة وراهنية يجب الانتباه اليها. كثيرون كتبوا عن عذابات الهوية المزدوجة، أما أنا فلم أعرف هذا العذاب لأنّ تنوعي هو ثروتي. لماذا ينبغي ان نصور دائماً الشخص المتعدد الجنسيات أو الديانات أو اللغات على أنه شخص مأزوم، وأن صاحب الهوية الواحدة هو الأسعد في حياته. على المستوى الشخصي أرى أن عدم التنوع مسألة مقلقة وليس العكس. شكّل فوزك بجائزة غونكور العام الماضي عن روايتك «أغنية هادئة» مفاجأة عربية وفرنسية لكونك فزت بالجائزة الأدبية الأعرق في فرنسا باعتبار أنك ما زلت صغيرة في السنّ والتجربة. ماذا غيرت غونكور في حياتك. وهل كنت تتوقعين أو تتوقين إلى هذه الجائزة؟ - غونكور غيرت كلّ شي في حياتي المهنية. لكنني بصراحة لم أكن أتوقعها ولم أكن أتوق إليها. كانت حلماً أدخره للأيام المقبلة. كنت أقول في نفسي قد أفكر في الحصول عليها في سنّ الخامسة والأربعين مثلاً وبعد أن يصبح لديّ عدد مقبول من الروايات. بدت مقدمة روايتك «اغنية هادئة» صادمة إذ كتبت الكلمات الأولى بلغة فجة وقاسية تتناقض تماماً مع العنوان الرئيس. هل كان صعباً عليك كتابة هذا المشهد الافتتاحي بكلّ هذه القسوة؟ - لم يكن مقبولاً أن تبدأ الرواية إلا من مشهد موت الطفل. لم أكن أفكر في ممارسة التشويق على حياة طفل صغير. هل يموت؟ هل تقتله المربية؟ ما هو مصيره؟ لذا بدأت جملتي الأولى «الطفل مات...» ومن ثم وصفت الحالة التي وجدت فيها جثته. وحين انتهيت من الصفحات الثلاث الأول، عرضتها على الناشر وقال لي ألا ألمسها بعد الآن ونصحني بأن أتركها جانباً وأكمل كتابتي. وبالفعل هذا ما حدث. لكنّ دوافع القتل عند الخادمة ظلّت مشوشة إلى حد ما... هل تقصدت ذلك؟ - نعم فعلاً... ثمة أشياء لا تقبل الشرح. لم أكن أريد الخوض في اسباب قد تبدو مستهلكة أو كاريكاتورية. الهدف كان فعل القتل ذاته. وحين كتبت «أغنية هادئة» كنت أريد من خلالها الغوص في شخصية الخادمة أو المربية لكونها من أكثر الشخصيات إشكاليةً. حين كنت صغيرة كانت لدي مربية تهتم بي في المنزل واليوم لدي مربية تهتم بأطفالي. الموضوع يمسني إلى حد ما. كان يجب أن نتكلم عن هذه الشخصية الحاضرة والخفية. في الواقع، يُطلب منها أن تكون مسؤولة عن كل شيء وأمام الناس يجب أن تكون غائبة. هي موجودة في قلب المنزل ولكن يجب أن تبقى على الهامش، غير مرئية، وألا تزعج أحداً بحضورها. قبل كتابة هذه الرواية، اشتركت في محترفين للكتابة الروائية، أحدهما تابع لجريدة «لوموند» والآخر لدار نشر «غاليمار». هل ساعدك المحترف في بلورة موهبتك؟ وهل يمكن المحترف أن يصنع كاتباً؟ - لا أبداً، المحترف لا يصنع كاتباً ولا يساعد في تشكيل ملامحه الإبداعية. وأنا أتكلم هنا عن المحترفات في فرنسا لأنها تختلف كلياً عن المحترفات في الدول الناطقة بالإنكليزية والتي تعمل على تدريس التقنيات الأدبية ومقاربة الكتابة مع النظريات النقدية. المحترف الأدبي في فرنسا مهمته تشجيعية فقط. منذ فترة يعيش الأدب المغربي الفرنكوفوني ذروته في فرنسا. وقد شكلّت مع كمال داوود «ثنائياً» لامعاً بحيث يكتب عنكما بوفرة في الصحف الفرنسية وتستضيفكما أهمّ البرامج الثقافية الفرنسية. ما الذي جعل منكما «نجمين» عربيين في فرنسا؟ - ببساطة لأننا نقول الأشياء كما نفكر بها. لا نسعى عبر كتابتنا إلى تدوير الزوايا من أجل ارضاء أحد. نقول ما نريد بالأسلوب الذي يقنعنا. نحاول في أعمالنا أن نكون أكثر انفتاحاً على الموضوعات والثقافات. كلانا يكتب في مكان لكننا نلتقي في الأفكار الأساسية وفي دفاعنا عن حرية الإنسان وضرورة نبذ الجهل والتعصب. الجيل الجديد ضجر من الخطابات القديمة وهو متعطش لسماع أصوات جديدة تقول الاشياء بصراحة دون مواربة أو خوف. أنا أكتب فعلاً ما أنا مقنعة به مع احترامي الدائم للرأي المخالف لآرائي. في كتابك الجديد «جنس وأكاذيب»، قدمت شهادات نساء مغربيات يعشن في الخفاء حياة أخرى لا تشبه حياتهنّ العامة، ما يكشف عن مقدار التناقض أو ربما الزيف الذي يعيشه هذا المجتمع. هل استطاع القرّاء المغاربة تقبّل الكتاب الذي أحدث عند خروجه صخباً وجدلاً ؟ - عندما نعيش في الغرب نعتاد على رؤية الحرية باعتبارها هدية تمنح صاحبها شعوراً بالراحة والسعادة. لكنني بعد نشر الكتاب، اكتشفت أنني أخطأت لأنني تعاملت مع الأمر كما أعيشه أنا وغيري في فرنسا. فالحرية في عالمنا العربي هي عذاب إن لم نقل مأساة. ففي حين يسعى المرء إلى تحقيق جزء من حريته يصبح عرضة للوحدة والانعزال بسبب كثرة النقد والرفض. الناس هنا يدفعون غالياً ثمن حريتهم الشخصية. من خلال لقاءاتي مع نساء مغربيات هنّ بطلات/ شاهدات كتابي، وجدت أن كثيرات منهن بدأن السير في درب حريتهن ثم قررن فجأة التراجع والعودة عن قرارهن خوفا من أثمان باهظة قد يفرضها عليهنّ المجتمع. إحداهنّ لجأت مثلا الى ترميم غشاء البكارة خوفا من الفضيحة، والثانية وافقت على الزواج من شخص يكبرها سناً ولا تحبه، خوفاً من العنوسة. لكنني الآن صرت أكثر تفهماً لهّذا التناقض وآمل بأن نصل إلى يومٍ نتحرر فيه من كل هذه الازدواجية. في مشهد عربي ملتهب سياسياً وأمنياً، إلى أي مدى يمكن الكتاب ان يُغيّر من سوداوية هذا الواقع؟ - ليست الكتابة هي المسؤولة عن التغيير وانما القراءة. أقول دائماً إن الأهمية ليست للكاتب بل للقارئ. الشخص الذي قرأ «البؤساء» و «جريمة وعقاب» مثلاً لا يمكن أن يكون كما الشخص الذي لم يقرأهما، لأن نظرتنا إلى المجرم تختلف، وموقفنا من البؤس يتبدّل. لذلك اعتبر أن الثورة الحقيقية يجب أن تكون ثقافية أولاً. مع الأسف، نسبة الأمية في المغرب من أعلى المعدلات عربياً بعد اليمن على ما أظنّ، لذلك أرى أن المشكلات الكثيرة فيه لن تجد الحلول الا مع انخفاض هذه النسبة وازدياد عدد القرّاء. حين نعود إلى تاريخ مصر أو لبنان نجد أن عواصم هذه الدول كانت في فترة ما أشبه بباريس ولندن، لكنّ الظروف ساءت ولا يمكن تحقيق أي خطوات مؤثرة إلا من خلال جيل قارئ اكتمل وعيه بالعلم والمعرفة والكتاب. كلما قرأنا واطلعنا وتسلحنا بلغات وثقافات تطورنا وطوّرنا في واقعنا. أنا أؤمن أن التقدم يحصل دائماً بالقراءة والانفتاح. هل تتقنين اللغة العربية باعتبار أنك عشت في المغرب حتى ال17 عاماً؟ وهل تقرأين الأدب العربي، وإن عبر الترجمات؟ - أتكلّم باللهجة المغربية طبعاً لكنني ضعيفة جداً بالعربية الفصحى. لكنني أقرأ لكتّاب فرنكوفونيين كما قرأت مؤلفات عربية كثيرة، معظمها من الكلاسيكيات، بترجمات فرنسية. ومن هؤلاء الكتّاب نجيب محفوظ، أمين معلوف، ادريس شراييبي، كاتب ياسين. كيف تجدين واقع الترجمات من العربية إلى الفرنسية؟ هل نسبة هذه الكتب كافية برأيك؟ - للأسف الترجمات غير كافية أبداً. والأمر يعود لأسباب كثيرة منها واقع النشر وأزماته والبدل المادي الضئيل الذي يُدفع للمترجمين. أعرف أن الأدب الفرنسي مترجم جيداً في الدول العربية لكن الروايات العربية يجب أن تصل أيضاً إلى القارئ الفرنسي لأنّ الفرنكوفونية يعني التبادل والانفتاح في الاتجاهين وليس باتجاه واحد. على المعنيين العمل بجدّ من أجل تعزيز الترجمة وتفعيلها ودعمها. لا ينبغي أن يكون هناك مسيطر ومسيطر عليه.