علاقته بالثقافة العربية ليست علاقة بيولوجيّة ولا تاريخية أو جغرافيّة، بل إن الكيمياء هي التي جمعت بينه وبينها، حين قرّر أن يتعلّم اللغة العربية لعلّه يكتشف بعضاً من غموض الشرق وسحره. أحبّ أن يتعمّق في دراسة «فنّ الإسلام»، فوجد نفسه حائراً بين الثقافتين العربية والفارسية. تعلّم اللغتين وانتقل من باريس إلى طهران، ومن ثمّ إلى القاهرة فصنعاء وبيروتودمشق... ماتياس إينار الحائز جوائز أدبية عدة لم يعد غريباً عن الشرق الحاضر في أكثر من رواية له. ولم يعد يعتبر نفسه غريباً عن «شرقنا»، فاللغة التي يُتقنها ويُدرّسها منحته هوية إضافية وجعلته موجوعاً لأوجاع هذه المنطقة ومتألماً لأحوالها. عن رواياته ومشاريعه وترجماته ونظرته إلى «الربيع العربي» وموقفه من الثورات وغيرها من القضايا، يتحدّث ماتياس إينار في هذا الحوار خلال زيارته الاخيرة لبيروت لمناسبة صدور ترجمة عربية لروايته «شارع اللصوص» (ترجمة ماري طوق - دار الجمل). ماذا يعني لك أن تترجم روايتك «شارع اللصوص» إلى العربية، لا سيما أنها لغة تُتقنها؟ - لا شكّ في أنّ ترجمة أعمالي إلى لغة أخرى أمر يهمني جداً، وبخاصة إلى العربية التي تربطني بها علاقة قوية جداً. وهو أيضاً أمر مهم على المستوى العام لأنّه يساهم في تعزيز التبادل الثقافي بين الدول، وفي تكريس الأدب الفرنسي عند العرب. وأتمنى أن تشهد حركة الترجمة من العربية إلى الفرنسية تطوراً أكبر حتى يتمكن القارئ الفرنسي من أن يتعرّف إلى أكبر كمّ من الأعمال الإبداعية المكتوبة باللغة العربية حديثاً. هل قرأت الترجمة العربية لروايتك «شارع اللصوص»؟ - أنا سعيد جداً بهذه الترجمة التي أنجزتها ماري طوق ونُشرت عن دار الجمل، وهي بالمناسبة مترجمة ممتازة سبق أن ترجمت روايتي «زون» إلى اللغة العربية. وبصراحة لم أقرأ الرواية بترجمتها حتى النهاية، لأنني أجد صعوبة في إعادة قراءة أعمالي، لكنّ ثقتي بماري كانت كبيرة، وهي لم تُخيّب ظنّي. في بلاد العرب درّست اللغة العربية لسنوات في جامعة برشلونة، وترجمت منها كتاباً واحداً إلى الفرنسية. كيف بدأت علاقتك مع هذه اللغة؟ - إنها علاقة غريبة وغامضة أساسها الصدفة البحتة. وعلى خلاف ما يعتقد الكثيرون من أنّ سبباً بيولوجياً جعلني أتقرّب من العربية، بدأت علاقتي مع هذه اللغة في الجامعة وتحديداً أثناء دراسة مادة «فنّ الإسلام». فلا أواصر عائلية لي أو عرقية أو جغرافية مع الثقافة العربية، لكنني أحببت أجواء هذا العالم الذي بدا ساحراً وجذاباً في نظري. أردت أن أتعمّق في دراسة «فنّ الإسلام»، فنصحتني معلّمة هذه المادة بضرورة تعلّم الفارسية أو العربية لكي أزيد فهمي بهذا الفنّ. وقبل أن أقرّر أي لغة سأختار، انتسبت إلى صفيّ العربية والفارسية، فأحببت اللغتين واخترت أن أتعلمهما. سافرت بعد ذلك إلى إيران ودرست في جامعة طهران، وانتقلت من ثمّ للعيش في أكثر من عاصمة عربية حيث تعلّمت مختلف اللكنات واللسانيات، من القاهرة إلى دمشقوبيروت. ما الذي تغيّر في نظرتك إلى العالم العربي بعدما اقتربت منه واكتسبت لغته وتعمقت في دراسة حضارته؟ - كانت نظرتي إكزوتيكية كتلك التي يمتلكها معظم الغربيين عن العالم العربي، وهي نظرة تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكن بعد أن زرت وسكنت عواصم عربية عدة، اكتشفت أن الواقع يختلف كلياً عن النظرة المتخيلة عنه. فالناس هنا تجاوزوا فكرتنا عنه، وهم أكثر حداثة ممّا نعتقد. الشرق عن كثب ليس كتاب «ألف ليلة وليلة»، كما نتصوّره في الغرب... ومع هذا، أحببته وأحببت الناس الموجودين فيه. وأحياناً أشعر بأنني شرقي إلى حدّ ما. في روايتك «شارع اللصوص»، أتيت على ذكر الكاتب المغربي محمد شكري. هل قرأت أدبه؟ ولمن تقرأ في الأدب العربي الحديث؟ - طبعاً قرأت محمد شكري ونجيب محفوظ وغيرهما من الكتّاب الكبار. وقرأت أيضاً المصري ابراهيم عبدالمجيد. الراوي في «شارع اللصوص» هو شاب عربي اسمه لخضر، وقد تطرّق إلى الأحداث العربية المستجدة في أكثر من دولة عربية. فهل ترى إلى ما يحدث اليوم باعتبار أنّه ربيع عربي حقيقي؟ - أعتقد أنّه صار معروفاً لدى الجميع أنّ ما يحصل اليوم هو خريف عربي. فالثورات هدفها الأساسي هو التغيير، لكنّ المرحلة التي تليها هي أيضاً في الأهمية نفسها. أمّا الثورات العربية فأحدثت تغييرات معينة، إلاّ أنها لم تُكمل طريقها وكأنها ولدت لكي تُحدث هذا التغيير وتنتهي من حيث كان يجب أن تبدأ. فالجزء الأصعب في الثورات هو الاستمرار من خلال العمل على بناء الدولة الجديدة ووضع الدستور المناسب، وإعداد آلية الحكم واختيار هيئة النظام الجديد، مع التخطيط من أجل تأمين حاجات الشعب وتنظيم البلد ورسم المشاريع التنموية المستقبلية... وهذا كلّه يحتاج إلى صبر ووقت طويل وخطة عمل، لكنّ المشكلة هي في الإعلام، وأعني هنا الإعلام الغربي الذي تناسى كلّ شيء وأخذ يُهلّل لما كان يحدث، وكأنّ الثورة «العظيمة» حدثت فعلاً وحققت أهدافها واستعادت الشعوب حقوقها. والضياع الذي عمّ بُعيد ثورتيْ مصر وتونس خير دليل على ما أقول. أمّا الواقع السوري اليوم فهو اشبه بالكارثة، بل إنّه كارثة حقيقية. فأنا عشت في هذه الدولة الجميلة ويعزّ عليّ ما يجري فيها. إنّه أمر لا يُصدّق، خصوصاً أنّ الحلّ القريب يبدو مستبعداً، وهذا مؤلم جداً. إنها حرب عبثية لا أعرف كيف السبيل للخروج من أنفاقها. القراء الشباب بعد فوزك بجائزة «غونكور» للثانويين في فرنسا عن رواية «حدّثهم عن المعارك...»، اختار طلاّب عرب روايتك «شارع اللصوص» للفوز بجائزة «غونكور خيار الشرق» العام الماضي. هل أسلوبك هو ما يلامس الفئة الشابة أم المواضيع التي تطرحها؟ - إنها مصادفة جميلة فعلاً، ولم أعتقد يوماً أنّ رواياتي ستُلامس هذه الفئة من القرّاء، لكنه إنجاز رائع أن يصل الكاتب إلى الطلاّب في المدارس والجامعات. أمّا السبب فلا مبرّر له لأنّ الروايتين مختلفتان في الشكل والموضوع والأسلوب. يُمكن القول إنّ الشباب أحبّوا رواية «شارع اللصوص» لأنّ الراوي فيها هو شاب في مثل سنّهم، لكنّ الرواية الأخرى تحكي عن مايكل أنجلو في بداية القرن السادس عشر، وهي مكتوبة بأسلوب مغاير، وهذا أكثر ما يُفرحني. إلى أي مدى تهتمّ بالجوائز، لا سيما أنك حصدت جوائز أدبية كثيرة؟ - الجوائز مهمة جداً بالنسبة إلى الكاتب، ولا سيّما في بداية مساره الأدبي. هي تُسلّط الضوء عليك وتسهّل مهمة انتشار الكتاب ووصوله إلى أكبر كمّ من القرّاء، ولا أظنّ شيئاً أهمّ عند الكاتب من وصول كتابه إلى الناس. يلحظ قارئ ماتياس إينار اختلافاً في تقنياتك الروائية وفي أجواء رواياتك حتى يكاد يجزم أنّك مسكون بأكثر من روائي. هل تتعمد ذلك؟ - أحبّ التغيير وأعمل في كل رواية على اكتشاف جانب جديد من شخصيتي كروائي وأحبّ أن يكتشفني القرّاء في كلّ عمل كأنني أكتب لهم للمرة الأولى. تحوّلت روايتك «العودة إلى أورنيوك» إلى فيلم بعنوان «قلب مفتوح» من بطولة جولييت بينوش. إلى أي مدى ساهم تحويل هذا العمل إلى انتشار إسمك في فرنسا وخارجها؟ - من المفيد أن تتحوّل الروايات إلى أفلام، لكنّ تجربتي كانت مختلفة نوعاً ما لكوني لم أشارك في سيناريو الفيلم الذي ابتعد كثيراً عن جوّ الرواية ومضمونها حتى نسيت أنّه مُقتبس فعلاً عن رواية كتبتها أنا. ولكن أكثر ما أسعدني أنني تعرّفت شخصياً إلى جولييت بينوش التي أحبّها كثيراً. ما هي أقرب رواياتك إلى قلبك؟ - أظنّ هي الرواية التي لم أكتبها بعد. لم تترجم إلى الفرنسية إلاّ كتابين، أحدهما بالعربية والثاني بالفارسية. لماذا؟ - الترجمة فعل لا أبحث عنه ولا أسعى خلفه. أنا أكتب معظم الوقت، ولكن إذا اقترح علي ترجمة عمل ما وشعرت بأنني جاهز لإنجاز ترجمته، فلن أتردّد. وبالمناسبة عُرضت عليّ ترجمة أحد أعمال سليم بركات، فوجدت كتابته صعبة ومعقدة، ولكن لا أعرف إن كنت سأخوض التجربة هذه أم لا... شاركت في معرض بيروت الفرنكوفوني ستّ مرّات. هل تعتقد أنّ وضع الفرنكوفونية ما زال مقبولاً في ظلّ سيطرة الإنكليزية على العالم؟ - تُعاني الفرنكوفونية بالطبع تراجعاً أمام رواج الإنكليزية، علماً أنّ لا شيء لديّ ضدّ الإنكليزية، ولكن أرغب من دون شكّ في أن تحافظ اللغة الفرنسية على موقعها في البلدان الفرنكوفونية (كندا، إفريقيا، لبنان، المغرب العربي...). وأتمنى أن تظلّ الفرنسية لغة عالمية حاضرة بقوّة. فاللغة ليست مجرّد أداة تواصل واتصال، بل إنها وسيلة لتعزيز العلاقات بين الدول، وهذا ما تهدف إليه «الفرنكوفونية» التي ساهمت عبر السنين في تقوية العلاقات، على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي ايضاً، بين فرنسا والدول الأخرى الناطقة بالفرنسية. وعلى الصعيد الشخصي، شاركت غير مرّة في صالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت ووجدته معرضاً ممتازاً يُمثّل فرصة للتلاقي بين الكتّاب والقرّاء والدور والمكتبات والطلاّب... إنّه حدث ثقافي مهم يؤكد مرة تلو أخرى أنّ لبنان كان، ولا يزال، على رغم كلّ ظروفه، نقطة مركزية للفرنكوفونية في العالم.