يبدو أن الدول الخائضة في دم السوريين تتسابق في أيامنا هذه على الاستثمار السياسي في القضية السورية، تجسيداً لما حققته عسكرياً على الأرض، وذلك بعد اكتمال صراع النفوذ والسيطرة، حيث تركز النفوذ الروسي على الشريط الساحلي مروراً بحمص، عبر مجموعة من القواعد البحرية والمطارات العسكرية، وبسط الطرف الأميركي نفوذه على جميع مناطق القسم الشرقي من نهر الفرات وشمال شرقي سورية وصولاً إلى الحدود مع تركيا، ما يعني سيطرته على كامل الجزيرة السورية وآبار النفط والغاز فيها، إلى جانب قاعدة التنف القريبة من المثلث الحدودي ما بين سورية والعراق والأردن، وبنائه عشر قواعد عسكرية ومطارات في مناطق نفوذه، فيما تحاول ميليشيا نظام الملالي وصل طريق طهران- بغداد - دمشق، بعد أن سيطرت على كامل المنطقة الواصلة ما بين دمشق وبيروت، واكتفت تركيا بشريط حدودي يمتد من جرابلس إلى اعزاز، وما زالت تحاول إكمال سيطرتها على مناطق في محافظة إدلب. وهناك لاعبون آخرون كالأردن الذي يساوم جميع الأطراف على معابره الحدودية مع سورية، ولا تغيب إسرائيل عن معادلات السيطرة والنفوذ من خلال فرضها منطقة عازلة على طول حدودها مع سورية، وامتلاكها اليد الطولى من خلال استهداف مقاتلاتها ميليشيات «حزب الله» والحرس الثوري لنظام الملالي الإيراني في أي مكان على الأرض السورية. وما تبقى من الأرض السورية، تتقاذفه ميليشيات الأسد وشبيحته في «سورية المفيدة»، وانحسرت سيطرة الفصائل العسكرية الإسلامية وفصائل المعارضة في ما يشبه الجزر المعزولة التي اجترحها ساسة موسكو وسموها «مناطق خفض التصعيد». وأظهرت مسارات الصراع في سورية وعليها، أن الخاسر الوحيد هو سورية، التي باتت مقسمة بحكم الأمر الواقع إلى ما يشبه الدويلات الفاشلة والكانتونات المعزولة، والسوريون الذين حصدت أرواح مئات الآلاف منهم آلات القتل الأسدية والروسية والأميركية والإيرانية وسواها، فضلاً عن تعرضهم لمختلف صنوف وفنون الاعتقال والتعذيب والتهجير القسري والنزوح، بعدما طاولت بلادهم مختلف أنواع الخراب والدمار اللذين يذكران بالمآسي الإغريقية القديمة. ولعل المشهد السياسي الراهن للقضية السورية الذي تديره الدول الخائضة في دم السوريين، يضجّ باجتماعات ومؤتمرات عديدة، تتكشف مشهديتها ما بين اجتماعات آستانة، وما سمي «مفاوضات جنيف»، التي لم تُجرَ فيها أي مفاوضات حقيقية خلال جولاتها العديدة، وما تفتقت به قريحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول «مؤتمر شعوب سورية»، المزمع عقده في مطار حميميم العسكري، يليه مؤتمر في مطار دمشق، وبين اجتماع الرياض- 2 وجولة مفاوضات جنيف- 8 التي حدد المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا في الثامن والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) موعداً لها، وجولات أخرى من الاجتماعات والمؤتمرات المتناثرة التي ستعقد في جنيف وآستانة والرياض وسواها. وفي خضم المشهدية السورية الدامية، المستمرة منذ أكثر من ست سنوات، يريد كل طرف دولي في الصراع على سورية استثمار ما حققه عسكرياً على الأرض، فالساسة الروس يسابقون الجميع في اجتماعات آستانة، ونجحوا في تبريد جبهات القتال ما بين فصائل المعارضة وميليشيات النظام السوري وميليشيات نظام الملالي الإيراني، وذلك بعد أن ألقت مقاتلاتهم وقاذفاتهم وبوارجهم البحرية ملايين الأطنان من القنابل القذائف والصواريخ على مناطق المعارضة، فضلاً عن مشاركة ضباط وأفراد من الجيش الروسي في القتال إلى جانب النظام. ويعتقد الروس أن بإمكانهم تحويل القضية السورية، التي هي بامتياز قضية سياسية يتطلب حلها تغييراً سياسياً حقيقياً للنظام، مجرد نزاع أهلي يمكن حله بواسطة المصالحات والهدن، لذلك يحضرون في أيامنا هذه لمؤتمر «مصالحة وطنية»، يجمعون فيه كل «الشعوب السورية» في مطارهم العسكري في منطقة حميميم السورية، عبر جمع ما هبّ ودبّ ممن يرضون لأنفسهم أن يكونوا إمعات بيد الروس وسواهم، وسيشمل ذلك ممثلين عن منصات حميميم والقاهرة وهيئة التنسيق ومشايخ العشائر وما يسمى «مجلس سورية الديموقراطي»، المسيطر عليه حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (بي يي دي) في سورية، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (بي كا كا) في تركيا، فضلاً عن ممثلين آخرين يفصلون على مقاس أجندات مصالح الروس ونظامي الأسد والملالي الإيراني. في المقابل، يحاول الساسة الأميركيون عدم ترك الجسد السوري المفتت والمنهك برمته بين أنياب الذئاب الروس وثعالب نظام الملالي الإيراني، وإن كانوا لا يمانعون الروس في استثمار وجودهم العسكري الاحتلالي سياسياً، لكنهم غير راضين عن تمدد ثعالب طهران ونهشها ما تبقى من الجسد السوري. غير أن الأهم هو أن لدى ساسة الولاياتالمتحدة الأميركية ما يستثمرونه سياسياً، بخاصة بعد أن أثمرت حرب تحالفهم الدولي دحر تنظيم «داعش» وإخراجه من عاصمة خلافته المزعومة في الرقة، واقتراب نهاية وجود مقاتلي هذا التنظيم في ما تبقى له من أماكن في الحواضر السورية، لذلك عاد الخطاب الأميركي سريعاً إلى نبرته العالية/ القديمة، بلسان وزير الخارجية ريكس تيلرسون، الذي أعاد كلام بعض مسؤولي الإدارة الأميركية السابقة، من خلال تأكيده أن «لا مستقبل لنظام الأسد، وأسرة الأسد في سورية»، وأن عهدها وصل إلى نهايته، لكنه استدرك بالقول إن «القضية الوحيدة هي كيفية تحقيق ذلك»، وكأن الولاياتالمتحدة لا تعرف كيفية الوصول إلى إنهاء حكم الأسد، بعدما كان متاحاً في أكثر من مناسبة، وساهمت في إيقافه وإحباط محاولات إسقاطه. كلام تيلرسون، ليس مفاجئاً، فعلى رغم أنه يأتي في مرحلة تميل فيها مواقف القوى والدول الخائضة في دم السوريين إلى إعادة تأهيل الأسد ونظامه برعاية الساسة الروس، على رغم تحوله مجرد أمير حرب أو زعيم ميليشيا. وهو الأضعف في معادلة الصراع على سورية، على رغم ارتكابه مجازر عديدة ضد المدنيين السوريين، وتجويعه أهالي غوطة دمشق، وتحويلهم هياكل عظمية هزيلة، فضلاً عن مجازر الأسلحة الكيماوية في خان شيخون وسواهما من المجازر المتعددة بحق السوريين. لكن ما قاله تيلرسون هو رسالة إلى الروس، تعبّر عن ضرورة الأخذ في الحسبان مصالح الولاياتالمتحدة في المعادلات السياسية، على رغم أن كلامه لا يتفق مع سياسة البيت الأبيض التي صرح بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أكثر من مناسبة، وكانت تتمحور حول أولوية الحرب على «داعش»، وصرفت النظر عن مسألة تغيير النظام السوري، بل تركت الولاياتالمتحدة الأميركية سورية ومصير الأسد تحت الوصاية الروسية المباشرة، وبالتالي لا يمكن تفسير كلام تيلرسون إلا في ضوء مراجعة مطلوبة للموقف الأميركي في مرحلة ما بعد «داعش»، وضرورات الاستثمار السياسي الأميركي في هذه المرحلة، والذي تتمدد إرهاصاته إلى لقاء تيلرسون مع المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، وتأكيده الالتزام بمرجعية مفاوضات جنيف للعملية السياسية، وضرورة ضم حليف واشنطن حزب الاتحاد الديموقرطي الكردي في سورية إلى مفاوضات جنيف، واعتبارها أساس العملية السياسية، وهذا يتعارض مع الموقف التركي الرافض إشراك الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي في أي مفاوضات سياسية حول سورية. وليس بوسع الساسة الأتراك سوى حضّ الائتلاف الوطني السوري المعارض على لعب دور الطرف السياسي السوري الفاعل في مختلف المحافل التي يشارك بها الأتراك حول سورية، بخاصة دعم مخرجات اجتماعات آستانة، والوقوف حيال أي مشاركة لحزب ال «بي يي دي» الكردي في أي استحقاق سياسي حول القضية السورية، وهذا يتطلب من الائتلاف الذهاب إلى اجتماع الرياض-2، من أجل الإسهام في تشكيل جسم سياسي جديد أو هيئة جديدة، يتم تطويعها وفق مواقف الدول الخائضة في دم السوريين. المشكلة في المعارضة السورية أيضاً، التي يتناهشها الانقسام والتفتت وتعدد الارتباطات والولاءات، حيث لا تعدم الدول الخائضة في دم السوريين وجود هيئات وشخصيات معارضة ترضخ لما تريده، أو لما يحفظ لها مصالحها وليس مصالح السوريين، بخاصة ممثلي المعارضة في آستانة، فضلاً عن أصحاب المنصات المتناثرة في كل من موسكو والقاهرة وباريس وحميميم، إلى جانب «هيئة التنسيق الوطنية»، وهي مكون رئيسي من مكوّنات الهيئة العليا للتفاوض، التي تضع قدماً في طرف المعارضة وأخرى في طرف النظام، حيث أكد منسقها العام من دمشق أن المساعي الدولية تتجه نحو استبدال جسم سياسي جديد بالهيئة العليا، بعد دمج ممثلين عن المنصات المذكورة وسواهم، حتى يتسنى للساسة الروس وساسة نظام الملالي الإيراني إكمال عملية إعادة تطويع المعارضة السورية، وبما يفضي إلى تسويق محاولتهم إعادة إنتاج نظام الأسد، وإبقائه جاثماً من جديد على صدور السوريين، وهذا لا يمر إلا عبر تطويع جميع القوى السياسية والعسكرية السورية، كي تذعن إلى لمخططاتهم وأهدافهم. لا أحد يمكنه إنكار أو تصور القضية السورية خارج الكوكب الأرضي، وخارج التأثيرات الإقليمية والدولية، لكن ذلك لا يعني قيام بعض المعارضين بدور وظيفي، خدمة لأجندات أجهزة الدول والأنظمة الخائضة في دم السوريين، بقدر ما عليهم القيام بدور فاعل، يصبّ في مصلحة قضية طموحات شعب ثار للخلاص من الاستبداد وبناء سورية المستقبل، وليس الإسهام في إجهاض قضية عادلة تحاول وتسعى أجهزة تلك الدول إلى قتلها ووأد مطالبها ووعودها. ولعل الأخطر هو أن غالبية شخصيات المعارضة لم تسخّر علاقاتها واتصالاتها مع القوى الدولية والإقليمية لمصلحة قضية الشعب السوري وطموحاته في التغيير، بل تحولت مجرد مجموعة من الموالين لهذه الدولة أو تلك، أو بالأحرى لهذا الجهاز الأمني لهذه الدولة أو تلك، الأمر الذي يعبّر عن عماء سياسي وبؤس حقيقي لأمثال هؤلاء المعارضين الذين تم دفعهم لتصدّر المشهد السياسي المعارض، ولن يغفر الشعب السوري لهؤلاء، كما لن تقف القوى الحية المعارضة الصامتة والمغيّبة داخل سورية وخارجها، وهي الكتلة الأهم، أمام ما يخطط لها ولبلادها، والتاريخ السوري يعطينا أمثلة كثيرة على من باعوا أنفسهم لأجهزة الدول، وعلى من وقفوا في وجه المخططات الدولية والإقليمية، وظلوا مخلصين لقضية شعبهم حتى النهاية. * كاتب سوري مقيم في اسطنبول